فصل: أسباب الاسترقاق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استدراكٌ

التّعريف

1 - الاستدراك لغةً‏:‏ استفعالٌ من ‏(‏درك‏)‏‏.‏ والدّرك الدّرك‏:‏ اللّحاق والبلوغ‏.‏ يقال‏:‏ أدرك الشّيء إذا بلغ وقته وانتهى، وعشت حتّى أدركت زمانه‏.‏ وللاستدراك في اللّغة استعمالان‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يستدرك الشّيء بالشّيء، إذا حاول اللّحاق به، يقال‏:‏ استدرك النّجاة بالفرار‏.‏ والثّاني‏:‏ في مثل قولهم‏:‏ استدرك الرّأي والأمر، إذا تلافى ما فرّط فيه من الخطأ أو النّقص‏.‏ وللاستدراك في الاصطلاح معنيان‏:‏

الأوّل‏.‏ وهو للأصوليّين والنّحويّين‏:‏ رفع ما يتوهّم ثبوته من كلامٍ سابقٍ‏.‏ أو إثبات ما يتوهّم نفيه‏.‏ وزاد بعضهم‏:‏ ‏(‏باستعمال أداة الاستدراك وهي لكنّ، أو ما يقوم مقامها من أدوات الاستثناء‏)‏‏.‏

الثّاني‏:‏ وهو ما يرد في كلام الفقهاء كثيراً وهو‏:‏ إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خللٍ أو قصورٍ أو فواتٍ‏.‏ ومنه عندهم‏:‏ استدراك نقص الصّلاة بسجود السّهو، واستدراك الصّلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصّلاة المنسيّة بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه‏.‏ ويخصّ الاستدراك الّذي بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه بعنوان «التّدارك» سواءٌ ترك سهواً أو ترك عمداً‏.‏ كقول الرّمليّ‏:‏ «إذا سلّم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها» وقوله‏:‏ «لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذّكّرها - وقد شرع في القراءة - فاتت فلا يتداركها»‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أـ الإضراب‏:‏

2 - وهو لغةً‏:‏ الإعراض عن الشّيء والكفّ عنه، بعد الإقبال عليه‏.‏ وفي اصطلاح النّحويّين قد يلتبس بالاستدراك «بالمعنى الأوّل» فالإضراب‏:‏ إبطال الحكم السّابق ببل، أو نحوها من الأدوات الموضوعة لذلك، أو ببدل الإضراب‏.‏ والفرق بينه وبين الاستدراك، أنّك في الاستدراك لا تبطل الحكم السّابق، كما في قولك‏:‏ جاء زيدٌ لكنّ أخاه لم يأت، فإثبات المجيء لزيدٍ لم يلغ، بل نفي المجيء عن أخيه، وفي الإضراب تبطل الحكم السّابق، فإذا قلت‏:‏ جاء زيدٌ، ثمّ ظهر لك أنّك غلطت فيه فقلت‏:‏ بل عمرٌو أبطلت حكمك الأوّل بإثبات المجيء لزيدٍ، وجعلته في حكم المسكوت عنه‏.‏

ب ـ الاستثناء‏:‏

3 - حقيقة الاستثناء‏:‏ إخراج بعض ما دخل في الكلام السّابق بإلاّ، أو إحدى أخواتها‏.‏ ومن هنا كان الاستثناء معيار العموم‏.‏ أمّا الاستدراك فهو إثبات نقيض الحكم السّابق لما يتوهّم انطباق الحكم عليه‏.‏ فالفرق أنّ الاستثناء للدّاخل في الأوّل، وأنّ الاستدراك لما لم يدخل في الأوّل، ولكن توهّم دخوله، أو سريان الحكم عليه‏.‏ ولأجل هذا التّقارب تستعمل أدوات الاستثناء مجازاً في الاستدراك‏.‏ وهو ما يسمّى في عرف النّحاة‏:‏ الاستثناء المنقطع، وحقيقته الاستدراك ‏(‏ر‏:‏ استثناءٌ‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ‏}‏ كما يجوز استعمال لكنّ - مثل غيرها ممّا يؤدّي مؤدّاها - في الاستثناء بالمعنى، إذ الاستثناء بالمعنى ليس له صيغةٌ محدّدةٌ، كقولك‏:‏ ما جاء القوم لكن جاء بعضهم‏.‏

ج ـ القضاء‏:‏

4 - المراد به هنا‏:‏ فعل العبادة إذا خرج وقتها المقدّر لها شرعاً قبل فعلها صحيحةً، سواءٌ أتركت عمداً أم سهواً، وسواءٌ أكان المكلّف قد تمكّن من فعلها في الوقت، كالمسافر بالنّسبة إلى الصّوم‏.‏ أم لم يتمكّن، كالنّائم والنّاسي بالنّسبة للصّلاة‏.‏ أمّا الاستدراك فهو أعمّ من القضاء، إذ أنّه يشمل تلافي النّقص بكلّ وسيلةٍ مشروعةٍ، ومنه قول صاحب مسلّم الثّبوت وشارحه‏:‏ «القضاء فعل الواجب بعد وقته المقدّر شرعا استدراكاً لما فات» فجعل القضاء استدراكاً‏.‏

د ـ الإعادة‏:‏

5 - هي‏:‏ فعل العبادة ثانياً في الوقت لخللٍ واقعٍ في الفعل الأوّل والاستدراك أعمّ من الإعادة كذلك‏.‏

هـ ـ التّدارك‏:‏

6 - لم نجد أحداً من الفقهاء عرّف التّدارك، ولكنّه دائرٌ في كلامهم كثيراً، ويعنون به في الأفعال‏:‏ فعل العبادة أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعاً ما لم يفت‏.‏ كما في قول صاحب كشّاف القناع‏:‏ «لو دفن الميّت قبل الغسل وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسّل تداركاً لواجب غسله»‏.‏ وقد يقع الغلط في الأقوال فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصّواب، ولذلك طرقٌ منها‏:‏ بدل الغلط، ومنها «بل» في الإيجاب والأمر‏.‏ وفسّر بعضهم التّدارك ببل بكون الإخبار الأوّل أولى منه الإخبار الثّاني، فيعرض عن الأوّل إلى الثّاني، لا أنّه إبطال الأوّل وإثبات الثّاني‏.‏

و ـ الإصلاح‏:‏

7 - وهو اصطلاحٌ للمالكيّة ذكروه في باب سجود السّهو في مواضع منها‏:‏ قول الدّردير «من كثر منه الشّكّ فلا إصلاح عليه، فإن أصلح بأن أتى بما شكّ فيه لم تبطل صلاته» ‏(‏فهو بمعنى التّدارك‏)‏‏.‏

ز ـ الاستئناف‏:‏

8 – استئناف العمل‏:‏ ابتداؤه، أي فعله مرّةً أخرى إذا نقض الفعل الأوّل قبل تمامه‏.‏ فاستئناف الصّلاة تجديد التّحريمة بعد إبطال التّحريمة الأولى، وبهذا المعنى وقع في قولهم‏:‏ «المصلّي إذا سبقه الحدث يتوضّأ، ثمّ يبني على صلاته، أو يستأنف، والاستئناف أولى» وكاستئناف الأذان إذا قطعه بفاصلٍ طويلٍ، واستئناف الصّوم في كفّارة الظّهار إذا انقطع التّتابع‏.‏ فالاستئناف على هذا طريقةٌ من طرق الاستدراك، والتّفصيل في مصطلح ‏(‏استئنافٌ‏)‏‏.‏

هذا وبسبب استعمال هذا المصطلح «الاستدراك» بمعنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ الاستدراك القوليّ بأداة الاستدراك وما يقوم مقامها،

والآخر‏:‏ الاستدراك بإصلاح الخلل في الأفعال والأقوال، ينقسم البحث قسمين تبعاً لذلك‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ الاستدراك القوليّ بـ «لكنّ» وأخواتها

صيغ الاستدراك‏:‏

هي‏:‏ لكنّ ‏(‏مشدّدةٌ‏)‏ ولكن ‏(‏مخفّفةٌ‏)‏ وبل وعلى، وأدوات الاستثناء‏.‏

9 - أ - لكنّ‏:‏ وهي أمّ الباب‏.‏ وهي الموضوعة له‏.‏ وقد ذكر بعض الأصوليّين أنّه يشترط في استعمال «لكنّ» وما في معناها للاستدراك‏:‏ الاختلاف بين ما قبل ‏(‏لكنّ‏)‏ وما بعدها بالإيجاب والسّلب لفظاً، نحو ما جاء زيدٌ لكنّ أخاه جاء‏.‏ ولو كان الاختلاف معنويّاً جاز أيضاً‏.‏ كقول القائل‏:‏ عليٌّ حاضرٌ لكنّ أخاه مسافرٌ، أي ليس بحاضرٍ‏.‏

ب - لكن‏:‏ «بسكون النّون» فهي في الأصل مخفّفةٌ من «لكنّ»، وتكون على حالين‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو الأغلب أن تكون ابتدائيّةً فتليها جملةٌ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ والحال الثّاني‏:‏ أن تكون عاطفةً، ويشترط لذلك‏:‏ أن يسبقها نفيٌ أو نهيٌ، وأن يليها مفردٌ، وألاّ تدخل عليها الواو مثل‏:‏ ما جاء زيدٌ لكن عمرٌو‏.‏ ولا تخلو في كلا الحالين من معنى الاستدراك، فتقرّر حكم ما قبلها، وتثبت نقيضه لما بعدها‏.‏

ج - بل‏:‏ إذا سبقها نفيٌ أو نهيٌ تكون حرف استدراكٍ مثل ‏(‏لكن‏)‏ تقرّر حكم ما قبلها، وتثبت نقيضه لما بعدها‏.‏ فإن وقعت بعد إيجابٍ أو أمرٍ لم تفد ذلك، بل تفيد الإضراب عن الأوّل، حتّى كأنّه مسكوتٌ عنه، وتنقل حكمه لما بعدها، كقولك‏:‏ جاء زيدٌ بل عمرٌو، وهذا ما يسمّى بالإضراب الإبطاليّ‏.‏ قال السّعد‏:‏ «أي إنّ الإخبار عنه ما كان ينبغي أن يقع‏.‏ وإذا انضمّ إليه «لا» صار نصّاً في نفي الأوّل»‏.‏ ولذا لا يقع مثله في القرآن ولا في السّنّة، إلاّ على سبيل الحكاية‏.‏ وقد تكون للإضراب الانتقاليّ، أي من غرضٍ إلى آخر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا‏}‏‏.‏

د - على‏:‏ تستعمل للاستدراك، كما في قول الشّاعر‏:‏ بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا على أنّ قرب الدّار خيرٌ من البعد على أنّ قرب الدّار ليس بنافعٍ إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ‏.‏

هـ - ‏(‏أدوات الاستثناء‏)‏‏:‏ قد تستخدم أدوات الاستثناء في الاستدراك، فيقولون‏:‏ زيدٌ غنيٌّ غير أنّه بخيلٌ، ومنه قوله تعالى ‏{‏قال لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلاّ من رحم‏}‏ وهذا ما يسمّى الاستثناء المنقطع ‏(‏ر‏:‏ استثناءٌ‏)‏، فيستعمل في ذلك ‏(‏إلاّ وغير‏)‏، ويستعمل فيه أيضاً ‏(‏سوى‏)‏ على الأصحّ عند أهل اللّغة‏.‏

شروط الاستدراك

10 - يشترط لصحّة الاستدراك شروطٌ، وهي‏:‏ الشّرط الأوّل‏:‏ اتّصاله بما قبله ولو حكماً‏.‏ فلا يضرّ انفصاله بما له تعلّقٌ بالكلام الأوّل، أو بما لا بدّ له منه، كتنفّسٍ وسعالٍ ونحو ذلك‏.‏ فإن حال بينه وبين الأوّل سكوتٌ يمكنه الكلام فيه، أو كلامٌ أجنبيٌّ عن الموضوع، استقرّ حكم الكلام الأوّل، وبطل الاستدراك‏.‏ فلو أقرّ لزيدٍ بثوبٍ، فقال زيدٌ‏:‏ ما كان لي قطّ، لكن لعمرٍو، فإن وصل فلعمرٍو، وإن فصل فللمقرّ، لأنّ النّفي يحتمل أمرين‏:‏ يحتمل أن يكون تكذيباً للمقرّ وردّاً لإقراره، وهو الظّاهر من الكلام، فيكون النّفي ردّاً إلى المقرّ‏.‏ ويحتمل ألاّ يكون تكذيباً، إذ يجوز أن يكون الثّوب معروفاً بكونه لزيدٍ، ثمّ وقع في يد المقرّ فأقرّ به لزيدٍ، فقال زيدٌ‏:‏ الثّوب معروفٌ بكونه لي، لكنّه في الحقيقة لعمرٍو، فقوله‏:‏ «لكنّه لعمرٍو» بيان تغييرٍ لذلك النّفي، فيتوقّف على الاتّصال؛ لأنّ بيان التّغيير عند الحنفيّة لا يصحّ إلاّ موصولاً، ولا يصحّ متراخياً، فإن وصل يثبت النّفي عن زيدٍ والإثبات لعمرٍو معاً، إذ صدر الكلام موقوفٌ على آخره فيثبت حكمهما معاً‏.‏ ولو فصل يصير النّفي ردّاً للإقرار‏.‏ ثمّ لا تثبت الملكيّة لعمرٍو بمجرّد إخباره بذلك‏.‏ الشّرط الثّاني‏:‏ اتّساق الكلام أي انتظامه وارتباطه‏.‏ والمراد أن يصلح للاستدراك، بأن يكون الكلام السّابق للأداة بحيث يفهم منه المخاطب عكس الكلام اللاّحق لها، أو يكون فيما بعد الأداة تداركٌ لما فات من مضمون الكلام‏.‏ نحو‏:‏ ما قام زيدٌ لكن عمرٌو، بخلاف نحو‏:‏ ما جاء زيدٌ لكن ركب الأمير، وفسّر صاحب المنار الاتّساق‏:‏ بكون محلّ النّفي غير محلّ الإثبات، ليمكن الجمع بينهما ولا يناقض آخر الكلام أوّله، ثمّ إن اتّسق الكلام فهو استدراكٌ، وإلاّ فهو كلامٌ مستأنفٌ‏.‏ ومثّل في التّوضيح للمتّسق من الاستدراك بما لو قال المقرّ‏:‏ لك عليّ ألفٌ قرضٌ، فقال له المقرّ له‏:‏ لا، لكن غصبٌ‏.‏ الكلام متّسقٌ فصحّ الوصل على أنّه نفيٌ لسبب الحقّ، وهو كون المقرّ به عن قرضٍ، لا نفيٍ للواجب وهو الألف‏.‏ فإنّ قوله‏:‏ «لا» لا يمكن حمله على نفي الواجب؛ لأنّ حمله على نفي الواجب لا يستقيم مع قوله‏:‏ «لكن غصبٌ» ولا يكون الكلام متّسقاً مرتبطاً‏.‏ فلمّا نفى كونه قرضاً تدارك بكونه غصباً، فصار الكلام مرتبطاً، ولا يكون ردّاً لإقراره بل يكون لمجرّد نفي السّبب‏.‏ ومن أمثلة ما يجب حمله على الاستئناف عند الحنفيّة‏:‏ ما إذا تزوّجت الصّغيرة المميّزة من كفءٍ بغير إذن وليّها بمائةٍ، فقال الوليّ‏:‏ لا أجيز النّكاح لكن أجيزه بمائتين‏.‏ قالوا‏:‏ ينفسخ النّكاح، ويجعل «لكن» وما بعدها كلاماً مبتدأً؛ لأنّه لمّا قال‏:‏ «لا أجيز النّكاح» انفسخ النّكاح الأوّل، فإنّ النّفي انصرف إلى أصل النّكاح، فلا يمكن إثبات ذلك النّكاح بعد ذلك بمائتين؛ لأنّه يكون نفي النّكاح وإثباته بعينه، فيعلم أنّه غير متّسقٍ، فيحمل «لكن بمائتين» على أنّه كلامٌ مستأنفٌ، فيكون إجازةً لنكاحٍ آخر، المهر فيه مائتان‏.‏ وإنّما يكون كلامه متّسقاً لو قال بدل ذلك‏:‏ لا أجيز هذا النّكاح بمائةٍ لكن أجيزه بمائتين؛ لأنّ النّفي ينصرف إلى القيد وهو كونه بمائةٍ، لا إلى أصل النّكاح، فيكون الاستدراك في المهر لا في أصل النّكاح‏.‏ وبذلك لا يكون قوله إبطالاً للنّكاح، فلا ينفسخ به‏.‏ وفي عدم الاتّساق في هذا المثال اختلافٌ بين الأصوليّين من الحنفيّة‏.‏ الشّرط الثّالث‏:‏ أن يكون الاستدراك بلفظٍ مسموعٍ إن تعلّق به حقٌّ‏.‏ وأدناه أن يسمع نفسه ومن بقربه‏.‏ قال الحصكفيّ‏:‏ يجري ذلك في كلّ ما يتعلّق بنطقٍ كتسميته على ذبيحةٍ، وطلاقٍ، واستثناءٍ وغيرها‏.‏ فلو طلّق أو استثنى ولم يسمع نفسه، لم يصحّ في الأصحّ‏.‏ وقيل في نحو البيع‏:‏ يشترط سماع المشتري‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ الاستدراك بمعنى تلافي النّقص والقصور‏.‏

11 -الاستدراك إمّا أن يكون لما فعله الإنسان ناقصاً عن الوضع الشّرعيّ المقرّر للعبادة، كمن ترك ركعةً من الصّلاة أو سجوداً فيها، وإمّا أن يكون فيما أخبر به، ثمّ تبيّن له خطؤه، أو فيما فعله من التّصرّفات، ثمّ تبيّن له أنّ التّصرّف على غير ذلك الوضع أتمّ وأولى، كمن باع شيئاً ولم يشترط، ثمّ بدا له أن‏.‏ يشترط شرطاً لمصلحته‏.‏ فالكلام في هذا القسم يرجع إلى مبحثين‏:‏ الأوّل‏:‏ الاستدراك بمعنى تلافي القصور عن الوضع الشّرعيّ‏.‏ والثّاني‏:‏ تلافي القصور عن الحقيقة، حقيقةً أو ادّعاءً في باب الإخبار، أو عمّا فيه المصلحة للمكلّف بحسب تصوّره، في باب الإنشاء‏.‏

أوّلاً‏:‏ الاستدراك بمعنى تلافي النّقص عن الأوضاع الشّرعيّة‏:‏

12 - هذا النّقص يقع في العبادات الّتي لها أوضاعٌ شرعيّةٌ مقرّرةٌ، كالوضوء والصّلاة، فإنّ لكلٍّ منهما أركاناً وسنناً وهيئاتٍ، تفعل بترتيباتٍ معيّنةٍ‏.‏ ثمّ قد يترك المكلّف فعل شيءٍ منها في محلّه لسببٍ من الأسباب الخارجة عن إرادته، كالمسبوق في الصّلاة أو النّاسي أو المكره، وقد يترك ذلك عمداً، وقد يفعل المكلّف الفعل عمداً على غير الوجه المطلوب شرعاً، أو يقع عليه بغير إرادته ما يمنع صحّة العبادة أو صحّة جزءٍ منها‏.‏ والشّريعة قد أتاحت الفرصة في كثيرٍ من الصّور لاستدراك النّقص الحاصل في العمل‏.‏

وسائل استدراك النّقص في العبادة‏:‏

13 - لاستدراك النّقص في العبادة طرقٌ مختلفةٌ بحسب أحوال ذلك النّقص‏.‏ ومن تلك الوسائل‏:‏

‏(‏أ‏)‏ القضاء‏:‏ ويكون الاستدراك بالقضاء في العبادة الواجبة أو المسنونة بعد خروج وقتها المقدّر لها شرعاً، سواءٌ فاتت عمداً، أو سهواً كما تقدّم‏.‏ وسواءٌ كان المكلّف لم يفعل العبادة أصلاً، أو فعلها على فسادٍ؛ لترك ركنٍ، أو لفوات شرطٍ من شروط الصّحّة، أو لوجود مانعٍ‏.‏ وفي استدراك العبادة المسنونة بالقضاء خلافٌ بين الفقهاء، وتفصيله في ‏(‏قضاء الفوائت‏)‏‏.‏

‏(‏ب‏)‏ الإعادة‏:‏ وهي فعل العبادة مرّةً أخرى في وقتها لما وقع في فعلها أوّلاً من الخلل‏.‏ ولمعرفة مواقع الاستدراك بالإعادة وأحكام الإعادة ‏(‏ر‏:‏ إعادةٌ‏)‏

‏(‏ج‏)‏ الاستئناف‏:‏ فعل العبادة من أوّلها مرّةً أخرى بعد قطعها والتّوقّف فيها لسببٍ من الأسباب، ولمعرفة مواقع الاستدراك بالاستئناف ‏(‏ر‏:‏ استئنافٌ‏)‏‏.‏

‏(‏د‏)‏ الفدية‏:‏ كاستدراك فائت الصّوم بفدية طعام مسكينٍ لكلّ يومٍ ممّن لم يستطع الصّوم؛ لكبرٍ أو مرضٍ مزمنٍ‏.‏ وكاستدراك النّقص الحاصل في الإحرام ممّن قصّ شعره، أو لبس ثياباً بفديةٍ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ ‏(‏ر‏:‏ إحرامٌ‏)‏ وشبيهٌ بذلك هدي الجبران في الحجّ‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏الحجّ‏)‏‏.‏

‏(‏هـ‏)‏ الكفّارة‏:‏ كاستدراك المكلّف ما أفسده من الصّوم بالجماع بالكفّارة ‏(‏ر‏:‏ كفّارةٌ‏)‏‏.‏

‏(‏و‏)‏ سجود السّهو‏:‏ يستدرك به النّقص الحاصل في الصّلاة في بعض الأحوال‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ سجود السّهو‏)‏‏.‏

‏(‏ز‏)‏ التّدارك‏:‏ هو الإتيان بجزء العبادة بعد موضعه المقرّر شرعاً‏.‏ ثمّ قد يكون الاستدراك بواحدٍ ممّا ذكر، وقد يكون بأكثر، كما في ترك شيءٍ من أركان الصّلاة، فإنّ المكلّف يتداركه ويسجد للسّهو، وكما في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما لو صامتا، فإنّ لهما الإفطار، ويلزمهما القضاء والفدية على قول الحنابلة، والشّافعيّة على المشهور عندهم‏.‏

ثانياً‏:‏ تلافي القصور في الإخبار والإنشاء‏.‏

14 - من تكلّم بكلامٍ خبريٍّ أو إنشائيٍّ ثمّ بدا له أنّه غلط في كلامه، أو نقص من الحقيقة، أو زاد عليها، أو بدا له أن ينشئ كلاماً مخالفاً لما كان قد قاله فله أن يفعل ذلك، بل قد يجب عليه في بعض الأحوال، وخاصّةً في الكلام الخبريّ، إذ أنّه بذلك يتدارك ما وقع في كلامه من الكذب والإخبار بخلاف الحقّ، ولكن إن ثبت بالكلام الأوّل حقٌّ، كمن حلف يميناً، أو قذف غيره، أو أقرّ له، ففي حكم الكلام المخالف التّالي له تفصيلٌ، فإنّ له صورتين‏.‏ الصّورة الأولى‏:‏ أن يكون متّصلاً بالأوّل‏.‏ فله حالتان‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يرتبط الثّاني بالأوّل بطريقٍ من طرق التّخصيص، فيثبت حكمهما تبعاً حيث أمكن، سواءٌ أكان ممّا يمكن الرّجوع عنه كالوصايا، أم كان ممّا لا رجوع فيه كالإقرار، فلو كان الثّاني استثناءً ثبت حكم المستثنى، وخرج من حكم المستثنى منه، كمن قال‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثةً، أو قال‏:‏ أعطه عشرةً إلاّ ثلاثةً، كان الباقي سبعةً في كلٍّ من المسألتين‏.‏ وهكذا في كلّ ما يتغيّر به الحكم في المتكلّم به، كالشّرط والصّفة والغاية وسائر المخصّصات المتّصلة‏.‏ فالشّرط كما لو قال‏:‏ وهبتك مائة دينارٍ إن نجحت‏.‏ والصّفة كما لو قال‏:‏ أبرأتك من ثمن الإبل الّتي هلكت عندك‏.‏ والغاية كما لو قال للوصيّ‏:‏ أعطه كلّ يومٍ درهماً إلى شهرٍ، فإنّ كلاًّ من هذه المخصّصات تغيّر به الحكم كلاًّ أو بعضاً‏.‏ قال القرافيّ‏:‏ القاعدة أنّ كلّ كلامٍ لا يستقلّ بنفسه إذا اتّصل بكلامٍ مستقلٍّ بنفسه صيّره غير مستقلٍّ بنفسه، وكذلك الصّفة والاستثناء والشّرط والغاية ونحوها‏.‏ وجعل منه ما لو قال المقرّ‏:‏ «له عليّ ألفٌ من ثمن خمرٍ» فقال فيها‏:‏ لا يلزمه شيءٌ، وتقييد حكم هذه الحالة بأنّه «حيث أمكن» ليخرج نحو قول المقرّ‏:‏ له عليّ عشرةٌ إلاّ تسعةً، إذ تلزمه عند الحنابلة العشرة ويسقط حكم الاستثناء؛ لأنّه لا يجوز عندهم استثناء أكثر من النّصف‏.‏ ومثلها عندهم لو قال‏:‏ له عليّ ألفٌ من ثمن خمرٍ‏.‏ ولا خلاف في ذلك في المخصّصات‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يتغيّر الحكم بكلامٍ مستقلٍّ، ومثاله ما لو قال المقرّ‏:‏ له الدّار وهذا البيت منها لي، فيؤخذ بإقراره، ويعمل بالقيد في الجملة الثّانية، وهو المذهب عند الحنابلة؛ لأنّ المعطوف بالواو مع المعطوف عليه في حكم الجملة الواحدة، خلافاً لاختيار ابن عقيلٍ بأنّه لا يعمل القيد قضاءً؛ لأنّ المعطوف بالواو جملةٌ مستقلّةٌ‏.‏ وعند المالكيّة ما يفيد أنّ مذهبهم كمذهب الحنابلة‏.‏ لكن لو عطف في الإثبات أو الأمر بـ «بل»‏.‏ قال صدر الشّريعة «إنّ ‏(‏بل‏)‏ للإعراض عمّا قبله وإثبات ما بعده على سبيل التّدارك» فإن كان فيما يقبل الرّجوع فيه كالوصيّة أو التّولية أو الخبر المجرّد، لغا الأوّل وثبت الثّاني، كما لو قال‏:‏ أوصيت لزيدٍ بألفٍ بل بألفين، يثبت ألفان فقط‏.‏ أو قول الإمام‏:‏ ولّيت فلاناً قضاء كذا بل فلاناً، أو قول القائل‏:‏ ذهبت إلى زيدٍ بل إلى عمرٍو‏.‏ وإن كان ممّا لا رجوع فيه كالإقرار والطّلاق ثبت حكم الأوّل، ولم يمكن إبطاله، فلو قال المقرّ‏:‏ له عليّ ألف درهمٍ، بل ألف ثوبٍ، يلزمه الجميع؛ لأنّهما من جنسين‏.‏ ولو قال‏:‏ له عليّ ألف درهمٍ، بل ألفان يثبت الألفان، قال التّفتازانيّ‏:‏ «لأنّ التّدارك في الأعداد يراد به نفي انفراد ما أقرّ به أوّلاً، لا نفي أصله، فكأنّه قال أوّلاً‏:‏ له عليّ ألفٌ ليس معه غيره، ثمّ تدارك ذلك الانفراد وأبطله»، وفي هذه المسألة خلاف زفر إذ قال‏:‏ «بل يثبت ثلاثة آلافٍ»‏.‏ ولم يختلف قول الحنفيّة في أنّه لو قال‏:‏ أنت طالقٌ طلقةً بل طلقتين أنّه يقع به – في المدخول بها – ثلاث طلقاتٍ‏.‏ ووجّه صاحب مسلّم الثّبوت وشارحه الفرق بين مسألتي الإقرار والطّلاق بأنّ الإقرار إخبارٌ على الأصحّ فلا يثبت شيئاً، فله أن يعرض عن خبرٍ كان أخبر به، ويخبر بدله بخبرٍ آخر، بخلاف الإنشاء إذ به يثبت الحكم، وليس في يده بعد ثبوته أن يعرض عنه‏.‏ أمّا عند الحنابلة‏:‏ فلا يقع في مسألة الطّلاق المذكورة إلاّ طلقتان، كما لا يلزمه في مسألة الإقرار إلاّ ألفان‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ أن يكون الكلام الثّاني متراخياً عن الأوّل منفصلاً عنه‏.‏ فله حالتان‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يكون في كلامٍ لا يمكن الرّجوع عنه، ولا يقبل منه، كالأقارير والعقود، فلا يكون الإقرار الثّاني ولا العقد الثّاني رجوعاً عن الأوّل‏.‏ فلو أقرّ له بمائة درهمٍ، ثمّ سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثمّ قال «زائفةٌ» أو «إلى شهرٍ» لزمه مائةٌ جيّدةٌ حالّةٌ‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يكون رجوعه ممكناً، كالوصيّة وعزل الإمام أحداً ممّن يمكنه عزلهم وتوليتهم، فإن صرّح برجوعه عن الأوّل، أو بإلحاقه شرطاً، أو تقييده بحالٍ، أو غير ذلك لحق - وإن لم يتبيّن أنّه قصد الرّجوع - فهذا يشبه التّعارض في الأدلّة الشّرعيّة، فهو تبديلٌ عند الحنفيّة مطلقاً‏.‏ ولو كان خاصّاً بعد عامٍّ أو عكسه فالعمل بالثّاني بكلّ حالٍ‏.‏ وعند غيرهم قد يجري فيه تقديم الخاصّ على العامّ سواءٌ أكان الخاصّ سابقاً أم متأخّراً‏.‏

استدلالٌ

التعريف

1 - الاستدلال لغةً‏:‏ طلب الدّليل، وهو من دلّه على الطّريق دلالةً‏:‏ إذا أرشده إليه‏.‏ وله في عرف الأصوليّين إطلاقاتٌ‏.‏ أهمّها اثنان‏:‏ الأوّل‏:‏ أنّه إقامة الدّليل مطلقاً، أي سواءٌ أكان الدّليل نصّاً، أم إجماعاً، أم غيرهما‏.‏ والثّاني‏:‏ أنّه الدّليل الّذي ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ‏.‏ وفي قولٍ‏:‏ الدّليل الّذي ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ علّةٌ‏.‏ قال الشّربينيّ‏:‏ «الاستفعال يرد لمعانٍ‏.‏ وعندي أنّ المراد منها هنا ‏(‏أي في هذا الإطلاق الثّاني‏)‏ الاتّخاذ‏.‏ والمعنى أنّ هذه الأشياء اتّخذت أدلّةً، أمّا الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس فقيامها أدلّةً لم ينشأ عن صنيع المجتهدين واجتهادهم، أمّا الاستصحاب ونحوه ممّا اعتبر استدلالاً فشيءٌ قاله كلّ إمامٍ بمقتضى اجتهاده، فكأنّه اتّخذه دليلاً»‏.‏

2 - فعلى هذا الإطلاق الثّاني يدخل في الاستدلال الأدلّة التّالية‏:‏

‏(‏أ، ب‏)‏ - القياس الاقترانيّ، والقياس الاستثنائيّ، وهما نوعا القياس المنطقيّ‏.‏ مثال الاقترانيّ‏:‏ النّبيذ مسكرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ينتج‏:‏ النّبيذ حرامٌ‏.‏ ومثال الاستثنائيّ‏:‏ إن كان النّبيذ مسكراً فهو حرامٌ، لكنّه مسكرٌ، ينتج‏:‏ فهو حرامٌ‏.‏ أو‏:‏ إن كان النّبيذ مباحاً فهو ليس بمسكرٍ، لكنّه مسكرٌ، ينتج‏:‏ فهو ليس بمباحٍ‏.‏

‏(‏ج‏)‏ وقياس العكس‏:‏ ذكر السّبكيّ أنّه من الاستدلال‏.‏ وقياس العكس هو‏:‏ إثبات عكس حكم شيءٍ لمثله، لتعاكسهما في العلّة، كما في حديث مسلمٍ‏:‏ «وفي بضع أحدكم صدقةٌ قالوا‏:‏ أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجرٌ ‏؟‏ قال‏:‏ أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ ‏؟‏ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ»

‏(‏د‏)‏ وقول العلماء‏:‏ الدّليل يقتضي ألاّ يكون الأمر كذا، خولف في صورة كذا، لمعنًى مفقودٍ في صورة النّزاع، فتبقى هي على الأصل الّذي اقتضاه الدّليل‏.‏

‏(‏هـ‏)‏ انتفاء الحكم لانتفاء دليله، بأن لم يجده المجتهد بعد الفحص الشّديد، فعدم وجدانه دليلٌ على انتفاء الحكم‏.‏ قال في المحلّى‏:‏ خلافاً للأكثر‏.‏

‏(‏و‏)‏ قول العلماء‏:‏ وجد السّبب فوجد الحكم، أو وجد المانع أو فقد الشّرط فانتفى الحكم، قال السّبكيّ‏:‏ خلافاً للأكثر‏.‏

‏(‏ز‏)‏ الاستقراء وهو‏:‏ الاستدلال بالجزئيّ على الكلّيّ‏.‏ قال السّبكيّ‏:‏ فإن كان تامّاً بكلّ الجزئيّات إلاّ صورة النّزاع، فهو دليلٌ قطعيٌّ عند الأكثر، وإن كان ناقصاً، أي بأكثر الجزئيّات، فدليلٌ ظنّيٌّ‏.‏ ويسمّى هذا عند الفقهاء بإلحاق الفرد بالأغلب‏.‏

‏(‏ح‏)‏ الاستصحاب وهو كما عرّفه السّعد‏:‏ الحكم ببقاء أمرٍ كان في الزّمان الأوّل، ولم يظنّ عدمه، وينظر تفصيل القول فيه في بحث الاستصحاب، وفي الملحق الأصوليّ‏.‏ ونفى قومٌ أن يكون استدلالاً‏.‏

‏(‏ط‏)‏ شرع من قبلنا، على تفصيلٍ فيه، يرجع إليه في الملحق الأصوليّ‏.‏ ونفى قومٌ أن يكون استدلالاً‏.‏ ذكر هذه الأنواع التّسعة السّبكيّ في جمع الجوامع‏.‏

‏(‏ي‏)‏ وزاد الحنفيّة الاستحسان، واستدلّ به غيرهم لكن سمّوه بأسماءٍ أخرى‏.‏

‏(‏ك‏)‏ وزاد المالكيّة المصالح المرسلة‏.‏ وسمّاه الغزاليّ الاستدلال المرسل‏.‏ وسمّاه أيضاً الاستصلاح، واستدلّ به غيرهم‏.‏

‏(‏ل‏)‏ ويدخل في الاستدلال أيضاً‏:‏ القياس في معنى الأصل، وهو المسمّى بتنقيح المناط‏.‏

‏(‏م‏)‏ وفي كشف الأسرار للبزدويّ‏:‏ الاستدلال هو‏:‏ انتقال الذّهن من المؤثّر إلى الأثر، وقيل بالعكس، وقيل مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ بل الانتقال من المؤثّر إلى الأثر يسمّى تعليلاً، والانتقال من الأثر إلى المؤثّر يسمّى استدلالاً‏.‏

3 - وأكثر هذه الأنواع يفصّل القول فيها تحت مصطلحاتها الخاصّة، ويرجع إليها أيضاً في الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن البحث في كلام الفقهاء

4 - يرد عند الفقهاء ذكر الاستدلال في مواطن كثيرةٍ‏.‏ منها في مبحث استقبال القبلة‏:‏ الاستدلال بالنّجوم، ومهابّ الرّياح، والمحاريب المنصوبة وغير ذلك، على القبلة‏.‏ ومنها في مبحث مواقيت الصّلاة‏:‏ الاستدلال بالنّجوم ومقادير الظّلال على ساعات اللّيل والنّهار، ومواعيد الصّلاة‏.‏ ومنها في مبحث الدّعاوى والبيّنات‏:‏ الاستدلال على الحقّ بالشّهادات، والقرائن والفراسة ونحو ذلك‏.‏

استراق السّمع

التعريف

1 - قال أهل اللّغة‏:‏ استراق السّمع يعني التّسمّع مستخفياً‏.‏ وقال القرطبيّ في تفسيره‏:‏ هو الخطفة اليسيرة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّجسّس‏:‏

2 - التّجسّس هو‏:‏ التّفتيش عن بواطن الأمور، ومن الفروق بين التّجسّس واستراق السّمع ما يلي‏:‏ أنّ التّجسّس هو التّنقيب عن أمورٍ معيّنةٍ، يبغي المتجسّس الحصول عليها، أمّا استراق السّمع فيكون بحمل ما يقع له من معلوماتٍ‏.‏ وأنّ التّجسّس مبناه على الصّبر والتّأنّي للحصول على المعلومات المطلوبة، أمّا استراق السّمع فإنّ مبناه على التّعجّل‏.‏ ويرى البعض‏:‏ أنّ التّجسّس يعني البحث عن العورات، وأنّه أكثر ما يقال في الشّرّ‏.‏ أمّا استراق السّمع فيكون فيه حمل ما يقع له من أقوالٍ، خيراً كانت أم شرّاً‏.‏

ب - التّحسّس‏:‏

3 - التّحسّس أعمّ من استراق السّمع، قال في عون المعبود في شرح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولا تحسّسوا» أي‏:‏ لا تطلبوا الشّيء بالحاسّة، كاستراق السّمع‏.‏ ويقرب من هذا ما في شرح النّوويّ لصحيح مسلمٍ، وما في فتح الباري وعمدة القاريّ لشرح صحيح البخاريّ‏.‏

الحكم التّكليفي

4 - الأصل تحريم استراق السّمع، وقد ورد النّهي عنه على لسان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون، أو يفرّون منه، صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة»‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم «إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا» ولأنّ الأسرار الشّخصيّة للنّاس محترمةٌ لا يجوز انتهاكها إلاّ بحقٍّ مشروعٍ‏.‏

5 - يستثنى من هذا النّهي‏:‏ الحالات الّتي يشرع فيها التّجسّس ‏(‏الّذي هو أشدّ تحريماً من استراق السّمع‏)‏ كما لو تعيّن التّجسّس أو استراق السّمع طريقاً إلى إنقاذ نفسٍ من الهلاك، كأن يخبر ثقةٌ بأنّ فلاناً خلا بشخصٍ ليقتله ظلماً، فيشرع في هذه الصّورة التّجسّس، وما هو أدنى منه من استراق السّمع‏.‏ كما يستثنى من ذلك أيضاً‏:‏ استراق وليّ الأمر السّمع بنيّة معرفة الخلل الواقع في المجتمع؛ ليقوم بإصلاحه، فيحلّ للمحتسب استراق السّمع، كما يحلّ له أن ينشر عيونه؛ لينقلوا له أخبار النّاس وأحوال السّوقة، ليعرف ألاعيبهم وطرق تحايلهم، فيضع لهم من أساليب القمع ما يدرأ ضررهم عن المجتمع، قال في نهاية الرّتبة في طلب الحسبة‏:‏ «ويلازم المحتسب الأسواق والدّروب في أوقات الغفلة عنه، ويتّخذ له فيها عيوناً يوصّلون إليه الأخبار وأحوال السّوقة»‏.‏ وقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يعسّ في شوارع المدينة المنوّرة ليلاً يسترق السّمع، ويتسقّط أخبار المسلمين لمعرفة أحوالهم، ويعين ذا الحاجة، ويرفع الظّلم عن المظلوم، ويكتشف الخلل ليسارع إلى إصلاحه، وقصصه في ذلك كثيرةٌ لا تحصى‏.‏

عقوبة استراق السّمع

6 - إذا كان استراق السّمع منهيّاً عنه في الجملة إلاّ في حالاتٍ - وإتيان المنهيّ عنه يوجب التّعزير - فإنّ استراق السّمع في غير الحالات المسموح به فيها يستحقّ فاعله التّعزير‏.‏ ويرجع في تفصيل أحكام استراق السّمع إلى مصطلح ‏(‏تجسّسٌ‏)‏‏.‏ وإلى باب الجهاد ‏(‏قتل الجاسوس‏)‏ وإلى الحظر والإباحة ‏(‏أحكام النّظر‏)‏‏.‏

استرجاعٌ

التعريف

1 - الاسترجاع لغةً‏:‏ مادّتها رجع، أي‏:‏ انصرف‏.‏ واسترجعت منه الشّيء‏:‏ إذا أخذت منه ما دفعته إليه‏.‏ واسترجع الرّجل عند المصيبة‏:‏ قال‏:‏ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون‏.‏

ويستعمل عند الفقهاء بمعنيين‏:‏

أ - بمعنى استردادٍ، ومن ذلك قولهم‏:‏ للمشتري - بعد فسخه بالعيب - حبس المبيع إلى حين استرجاع ثمنه من البائع‏.‏ وقولهم‏:‏ السّلع المبيعة أو المجعولة ثمناً إذا علم بعيوبها من صارت إليه بعد العقد فإنّ له الفسخ، واسترجاع عوضها من قابضه إن كان باقياً، أو بدله إن تعذّر ردّه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ استردادٌ‏)‏‏.‏

ب - بمعنى قول‏:‏ «إنّا للّه وإنّا إليه راجعون»، عند المصيبة‏.‏ وتفصيل الكلام في ذلك على الوجه الآتي‏:‏

متى يشرع الاسترجاع عند المصيبة ‏؟‏ ومتى لا يشرع ‏؟‏‏.‏

2 - يشرع الاسترجاع عند كلّ ما يبتلى به الإنسان من مصائب، عظمت أو صغرت‏.‏ والأصل فيه قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون‏}‏ وإنّما يشرع الاسترجاع عند كلّ شيءٍ يؤذي الإنسان ويضرّه؛ لما روي «أنّه طفئ سراج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون فقيل‏:‏ أمصيبةٌ هي ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، كلّ شيءٍ يؤذي المؤمن فهو له مصيبةٌ» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليسترجع أحدكم في كلّ شيءٍ، حتّى في شسع نعله، فإنّها من المصائب»‏.‏ وغير ذلك كثيرٌ ممّا روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

3 - والحكمة في الاسترجاع عند المصائب‏:‏ الإقرار بعبوديّة اللّه ووحدانيّته، والتّصديق بالمعاد، والرّجوع إليه، والتّسليم بقضائه، والرّجاء في ثوابه‏.‏ ولذلك يقول النّبيّ‏:‏ «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه»‏.‏

4 - أمّا متى لا يشرع‏:‏ فمعلومٌ أنّ الاسترجاع بعض آيةٍ من القرآن الكريم، وأنّه يحرم على غير الطّاهر قراءة أيّ شيءٍ منه، ولو بعض آيةٍ‏.‏ وقد ذكر الفقهاء في كتبهم‏:‏ أنّه يحرم على الجنب والحائض والنّفساء قراءة شيءٍ من القرآن وإن قلّ، حتّى بعض آيةٍ، ولو كان يقرأ في كتاب فقهٍ أو غيره فيه احتجاجٌ بآيةٍ حرم عليه قراءتها؛ لأنّه يقصد القرآن للاحتجاج، أمّا إذا كان لا يقصد القرآن فلا بأس؛ لأنّهم قالوا‏:‏ يجوز للجنب والحائض والنّفساء أن تقول عند المصيبة‏:‏ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، إذا لم تقصد القرآن‏.‏

حكمه التّكليفي

5 - يذكر الفقهاء أنّ الاسترجاع ينطوي على أمرين‏:‏

أ - قولٍ باللّسان، وهو أن يقول عند المصيبة‏:‏ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون‏.‏ وهذا مستحبٌّ‏.‏

ب - عملٍ بالقلب، وهو الاستسلام والصّبر والتّوكّل، وما يتبع ذلك، وهذا واجبٌ‏.‏

استردادٌ

التعريف

1 - الاسترداد في اللّغة‏:‏ طلب الرّدّ، يقال‏:‏ استردّ الشّيء وارتدّه‏:‏ طلب ردّه عليه، ويقال‏:‏ وهب هبةً ثمّ ارتدّها أي‏:‏ استردّها، واستردّه الشّيء‏:‏ سأله أن يردّه عليه‏.‏ ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الردٌّ‏:‏

2 - الرّدّ‏:‏ هو صرف الشّيء ورجعه‏.‏ فالرّدّ قد يكون أثراً للاسترداد، وقد يحصل الرّدّ بلا استردادٍ‏.‏

ب - الارتجاعٌ - الاسترجاعٌ‏:‏

3 - يقال رجع في هبته‏:‏ إذا أعادها إلى ملكه، وارتجعها واسترجعها كذلك، واسترجعت منه الشّيء‏:‏ إذا أخذت منه ما دفعته إليه‏.‏ ويتبيّن من ذلك أنّ الاسترداد والارتجاع والاسترجاع بمعنًى واحدٍ لغةً واصطلاحاً‏.‏

صفته‏:‏ حكمه التّكليفي

4 - الاسترداد من التّصرّفات الجائزة، وقد يعرض له الوجوب، كما في البيوع الفاسدة، حيث يجب الفسخ، فإن كانت السّلعة قائمةً ردّت بعينها، وإن كانت فائتةً ردّت قيمتها على البائع بالغةً ما بلغت، وردّ الثّمن على المشتري، وذلك في الجملة، على خلافٍ تفصيله في مصطلحي‏:‏ ‏(‏فسادٌ - وبطلانٌ‏)‏ لأنّ الفسخ حقّ الشّرع‏.‏ وقد يحرم الاسترداد، كمن أخرج صدقةً، فإنّه يحرم عليه استردادها؛ لقول عمر‏:‏ من وهب هبةً على وجه صدقةٍ فإنّه لا يرجع فيها ولأنّ المقصود هو الثّواب وقد حصل‏.‏

أسباب حقّ الاسترداد

للاسترداد أسبابٌ متنوّعةٌ منها‏:‏ الاستحقاق، والتّصرّفات الّتي لا تلزم، وفساد العقد‏.‏‏.‏ إلخ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الاستحقاق‏:‏

5 - الاستحقاق - بمعناه الأعمّ - ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير‏.‏ وهذا التعريـف يشمل الغصب والسّرقة، فالمغصوب منه والمسروق منه يثبت لهما حقّ الاسترداد، ويجب على الغاصب والسّارق ردّ المغصوب والمسروق لربّه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»‏.‏ ويشمل استحقاق المبيع على المشتري، أو الموهوب على المتّهب، فيوجب الفسخ والاسترداد، لفساد العقد في الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة، ويتوقّف العقد على إجازة ربّه عند الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ والقول بالتّوقّف هو أيضاً مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وإذا فسخ البيع ثبت للمشتري في الجملة حقّ استرداد الثّمن، على تفصيلٍ بين ما إذا كان ثبوت الاستحقاق بالبيّنة، أو بالإقرار‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏استحقاقٌ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ التّصرّفات الّتي لا تلزم‏:‏ التّصرّفات الّتي لا تلزم متنوّعةٌ، منها‏:‏

أ - العقود غير اللاّزمة‏:‏

6 - وهي الّتي تقبل بطبيعتها أن يرجع فيها أحد العاقدين كالوديعة، والعاريّة، والمضاربة، والشّركة، والوكالة‏.‏ فهذه العقود غير لازمةٍ، ويجوز الرّجوع فيها في الجملة، ويثبت عند فسخها حقّ الاسترداد للمالك، ويجب الرّدّ عند الطّلب؛ لأنّها أماناتٌ يجب ردّها؛ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها‏}‏، ولذلك لو حبسها بعد الطّلب فضاعت ضمن، ولو هلكت بلا تعدٍّ أو تفريطٍ لم يضمن‏.‏ وهذه الأحكام متّفقٌ عليها في الجملة، إذا توافرت الشّروط المعتبرة شرعاً، كنضو رأس المال في المضاربة، أي تحوّل السّلع إلى نقودٍ‏.‏ ولو كان في الاسترداد ضررٌ فإنّه يتوقّف حتّى يزول الضّرر، كالأرض إذا استعيرت للزّراعة، وأراد المعير الرّجوع، فيتوقّف الاسترداد حتّى يحصد الزّرع‏.‏ والعاريّة المقيّدة بعملٍ أو أجلٍ عند المالكيّة لا تستردّ حتّى ينقضي الأجل أو العمل‏.‏ هذا حكم الاسترداد في الجملة في هذه التّصرّفات، وفي ذلك تفاصيل كثيرةٌ يرجع إليها في موضوعاتها‏.‏

ب - العقود الّتي يدخلها الخيار‏:‏

7 -كخيار الشّرط، وخيار العيب ونحوهما كثيرةٌ من أهمّها‏:‏ البيع، والإجارة‏.‏ ففي البيع‏:‏ بكون العقد في مدّة خيار الشّرط غير لازمٍ، ولمن له الخيار حقّ الفسخ والرّدّ‏.‏ جاء في بدائع الصّنائع‏:‏ البيع بشرط الخيار بيعٌ غير لازمٍ، لأنّ الخيار يمنع لزوم الصّفقة، قال سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ البيع صفقةٌ أو خيارٌ ولأنّ الخيار هو التّخيير بين الفسخ والإجازة، وهذا يمنع اللّزوم، ومثل ذلك في بقيّة المذاهب مع التّفاصيل‏.‏ كذلك خيار العيب يجعل العقد غير لازمٍ وقابلاً للفسخ، فإذا نقض المشتري البيع بخيار العيب انفسخ العقد، وردّ المشتري البيع معيباً إلى البائع واستردّ الثّمن‏.‏ ويختلف الفقهاء في حقّ المشتري في إمساك المبيع معيباً، والرّجوع على البائع بأرش العيب في المعيب، فالحنفيّة والشّافعيّة لا يعطونه هذا الحقّ، وإنّما له أن يردّ السّلعة ويستردّ الثّمن، أو يمسك المعيب ولا رجوع له بنقصانٍ؛ لأنّ الأوصاف لا يقابلها شيءٌ من الثّمن في مجرّد العقد؛ ولأنّه لم يرض بزواله عن ملكه بأقلّ من المسمّى، فيتضرّر به، ودفع الضّرر عن المشتري ممكنٌ بالرّدّ بدون تضرّره‏.‏ أمّا الحنابلة فإنّه يكون للمشتري عندهم الخيار بين الرّدّ والرّجوع بالثّمن، وبين الإمساك والرّجوع بأرش العيب‏.‏ ويفصّل المالكيّة بين العيب اليسير غير المؤثّر، فلا شيء فيه ولا ردّ به، وبين العيب المؤثّر الّذي له قيمةٌ فيرجع بأرشه، وبين العيب الفاحش فيجب هنا الرّدّ، حتّى إذا أمسكه ليس له الرّجوع بالنّقصان، وفي خيار العيب تفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحه‏.‏ هذه أمثلةٌ لبعض الخيارات الّتي تجعل العقد غير لازمٍ، ويثبت بها حقّ الاسترداد وهناك خياراتٌ أخرى تسير على هذا النّمط، كخيار التّعيين، وخيار الغبن، وخيار التّدليس، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏خيارٌ‏)‏‏.‏

8 - ويدخل الخيار كذلك عقد الإجارة، فيثبت به حقّ الفسخ والرّدّ، فمن استأجر داراً فوجد بها عيباً حادثاً يضرّ بالسّكنى، فله الفسخ والرّدّ‏.‏

ثالثاً‏:‏ العقد الموقوف عند عدم الإجازة‏:‏

9 - ومن أشهر أمثلته‏:‏ بيع الفضوليّ، فإنّه لا ينفذ لانعدام الملك، لكنّه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك عند الحنفيّة والمالكيّة، فإن أمضاه مضى، وإن ردّه ردّ‏.‏ وإذا أجاز المالك البيع صار الفضوليّ بمنزلة الوكيل، وينتقل ملك المبيع إلى المشتري، ويكون الثّمن للمالك؛ لأنّه بدل ملكه‏.‏ وبيع الفضوليّ قابلٌ للفسخ من جهة المشتري وجهة الفضوليّ عند الحنفيّة، فلو فسخه الفضوليّ قبل الإجازة انفسخ، واستردّ المبيع إن كان قد سلّم، ويرجع المشتري بالثّمن على البائع إن كان قد نقده، وكذا إذا فسخه المشتري ينفسخ‏.‏ أمّا عند المالكيّة‏:‏ فهو لازمٌ من جهة الفضوليّ ومن جهة المشتري، منحلٌّ من جهة المالك‏.‏ أمّا عند الشّافعيّة، والحنابلة‏:‏ فبيع الفضوليّ باطلٌ في الأصحّ ويجب ردّه، وفي الرّواية الأخرى‏:‏ أنّه يتوقّف على إجازة المالك‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ‏(‏ر‏:‏ فضوليٌّ - بيعٌ‏)‏‏.‏

رابعاً‏:‏ فساد العقد‏:‏

10 - يفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فالعقد الباطل عندهم‏:‏ هو ما لم يشرع بأصله ولا وصفه، والعقد الفاسد‏:‏ هو ما شرع بأصله دون وصفه‏.‏ أمّا حكم الاسترداد بالنّسبة لكلٍّ من الباطل والفاسد فيظهر فيما يأتي‏:‏ العقد الباطل لا وجود له شرعاً، ولا يفيد الملك؛ لأنّه لا أثر له، ولا يملك أحد العاقدين أن يجبر الآخر على تنفيذه‏.‏ ففي البيع يقول الكاسانيّ‏:‏ لا حكم لهذا البيع ‏(‏الباطل‏)‏ أصلاً؛ لأنّ الحكم للموجود، ولا وجود لهذا البيع إلاّ من حيث الصّورة؛ لأنّ التّصرّف الشّرعيّ لا وجود له بدون الأهليّة والمحلّيّة شرعاً، كما لا وجود للتّصرّف الحقيقيّ إلاّ من الأهل في المحلّ حقيقةً، وذلك نحو بيع الميتة، والدّم، وكلّ ما ليس بمالٍ‏.‏ وما دام العقد الباطل لا وجود له شرعاً، ولا ينتج أيّ أثرٍ، فإنّه يترتّب على ذلك أنّ البائع لو سلّم المبيع باختياره للمشتري، أو دفع المشتري باختياره الثّمن للبائع، كان للبائع أن يستردّ المبيع، وللمشتري أن يستردّ الثّمن؛ لأنّ البيع الباطل لا يفيد الملك ولو بالقبض، ولذلك لو تصرّف المشتري فيه ببيعٍ، أو هبةٍ، أو عتقٍ، فإنّ هذا التّصرّف لا يمنع البائع من استرداد المبيع من يد المشتري الثّاني، ذلك أنّ البيع الباطل لم ينقل الملكيّة للمشتري، فيكون المشتري قد باع مالاً غير مملوكٍ له‏.‏

11 - أمّا العقد الفاسد فإنّه وإن كان مشروعاً بأصله لكنّه غير مشروعٍ بوصفه، فلذلك يفيد الملك بالقبض في الجملة، إلاّ أنّه ملكٌ غير لازمٍ، بل هو مستحقٌّ الفسخ، حقّاً للّه تعالى؛ لما في الفسخ من رفع الفساد، ورفع الفساد حقّ اللّه تعالى، والفسخ في البيع الفاسد يستلزم ردّ المبيع على بائعه، وردّ الثّمن على المشتري، هذا إذا كان المبيع قائماً في يد المشتري‏.‏ أمّا إذا تصرّف فيه ببيعٍ أو هبةٍ، فليس لواحدٍ منهما فسخه؛ لأنّ المشتري ملكه بالقبض، فتنفذ فيه تصرّفاته كلّها، وينقطع به حقّ البائع في الاسترداد؛ لأنّه تعلّق به حقّ العبد، والاسترداد حقّ الشّرع، وما اجتمع حقّ اللّه وحقّ العبد إلاّ غلب حقّ العبد لحاجته‏.‏ وسواءٌ أكان التّصرّف يقبل الفسخ، أو لا يقبله، إلاّ الإجارة فإنّها لا تقطع حقّ البائع في الاسترداد؛ لأنّ الإجارة عقدٌ ضعيفٌ يفسخ بالأعذار، وفساد الشّراء عذرٌ، هذا هو مذهب الحنفيّة‏.‏

12 - أمّا الجمهور‏:‏ فإنّهم لا يفرّقون بين العقد الفاسد والعقد الباطل‏.‏ فالفاسد والباطل عندهم شيءٌ واحدٌ، ولا يحصل به الملك، سواءٌ اتّصل به القبض، أم لم يتّصل، ويلزم ردّ المبيع على بائعه، والثّمن على المشتري هذا إذا كان المبيع قائماً في يد المشتري‏.‏ أمّا إذا تصرّف فيه المشتري ببيعٍ أو هبةٍ فقد اختلفوا في ذلك‏.‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا ينفذ تصرّف المشتري بذلك، ويكون من حقّ البائع استرداد المبيع، ومن حقّ المشتري استرداد الثّمن‏.‏ أمّا المالكيّة‏:‏ فإنّه يجب عندهم ردّ المبيع الفاسد لربّه إن لم يفت، كأن لم يخرج عن يده ببيعٍ، أو بنيانٍ، أو غرسٍ، فإن فات بيد المشتري مضى المختلف فيه - ولو خارج المذهب المالكيّ - بالثّمن الّذي وقع به البيع، وإن لم يكن مختلفاً فيه بل متّفقاً على فساده، ضمن المشتري قيمته إن كان مقوّماً حين القبض، وضمن مثل المثليّ إذا بيع كيلاً أو وزناً، وعلم كيله أو وزنه، ولم يتعذّر وجوده، وإلاّ ضمن قيمته يوم القضاء عليه بالرّدّ‏.‏

خامساً‏:‏ انتهاء مدّة العقد‏:‏

13 - انتهاء مدّة العقد في العقود المقيّدة بمدّةٍ يثبت حقّ الاسترداد، ففي عقد الإجارة يكون للمؤجّر أن يستردّ ما آجره إذا انقضت مدّة الإجارة، فمن استأجر أرضاً للبناء، وغرس الأشجار، ومضت مدّة الإجارة، لزم المستأجر أن يقلع البناء والغرس ويسلّمها إلى ربّها فارغةً، لأنّه يجب عليه ردّها إلى صاحبها غير مشغولةٍ ببنائه وغرسه؛ لأنّ البناء والغرس ليس لهما حالةٌ منتظرةٌ ينتهيان إليها‏.‏ وفي تركهما على الدّوام بأجرٍ أو بغير أجرٍ يتضرّر صاحب الأرض، فيتعيّن القلع في الحال، إلاّ أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعاً، ويتملّكه، ‏(‏وذلك برضى صاحب الغرس والشّجر، إلاّ أن تنقص الأرض بقلعهما، فحينئذٍ يتملّكهما بغير رضاه‏)‏ أو يرضى بتركه على حاله، فيكون البناء لهذا، والأرض لهذا؛ لأنّ الحقّ له، فله ألاّ يستوفيه‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ يخيّر المالك بين تملّك الغراس والبناء بقيمته، أو تركه بأجرته، أو قلعه وضمان نقصه، ما لم يقلعه مالكه‏.‏ ومثل ذلك مذهب الشّافعيّة، إلاّ إذا كان صاحب الأرض شرط القلع عند انتهاء المدّة، فإنّه يعمل بشرطه‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يجبر صاحب الغرس على القلع بعد انتهاء المدّة، ويجوز لربّ الأرض كراؤها له مدّةً مستقبلةً، وهذا بالنّسبة للغرس والبناء‏.‏ أمّا بالنّسبة للزّراعة إذا انقضت المدّة والزّرع لم يدرك، فليس للمؤجّر في هذه الحالة أن يستردّ أرضه، وإنّما يترك الزّرع على حاله إلى أن يستحصد، ويكون للمالك أجر المثل؛ لأنّ للزّرع نهايةً معلومةً، فأمكن رعاية الجانبين‏.‏ وهذا هو الحكم في الجملة عند الفقهاء‏.‏ غير أنّ الحنابلة يقيّدون ذلك بعدم التّفريط من المستأجر، فإن كان بتفريطٍ أجبر على القلع‏.‏ وهذا هو رأي الشّافعيّة في الزّرع المطلق، أي الّذي لم يحدّد نوعه، فيكون للمالك عندهم أن يتملّكه بنقله‏.‏ وأمّا في الزّرع المعيّن إن كان هناك شرطٌ بالقلع، فله جبر صاحب الزّرع على قلعه، وإن لم يكن هناك شرطٌ فقولان‏:‏ بالجبر وعدمه‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يلزمه البقاء إلى الحصاد‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏إجارةٌ‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ الإقالة‏:‏

14 - الإقالة - سواءٌ اعتبرت فسخاً أم بيعاً - يثبت بها حقّ الاسترداد، لأنّها من التّصرّفات الجائزة؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أقال مسلماً أقال اللّه عثرته يوم القيامة»‏.‏ والقصد من الإقالة هو‏:‏ ردّ كلّ حقٍّ إلى صاحبه‏.‏ ففي البيع يعود بمقتضاها المبيع إلى البائع، والثّمن إلى المشتري‏.‏ وبالجملة فإنّه يجب ردّ الثّمن الأوّل، أو مثله، ولا يجوز ردّ زيادةٍ على الثّمن، أو نقصه، أو ردّ غير جنسه؛ لأنّ مقتضى الإقالة ردّ الأمر إلى ما كان عليه، ورجوع كلٍّ منهما إلى ما كان له‏.‏ وهذا بالاتّفاق في الجملة‏.‏ وعند أبي يوسف‏:‏ الإقالة جائزةٌ بما سمّيا كالبيع الجديد‏.‏

سابعاً‏:‏ الإفلاس‏:‏

15 - حقّ الغرماء يتعلّق بمال المفلس، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ المشتري إذا حجر عليه لفلسٍ قبل أداء الثّمن الحالّ - والمبيع بيد البائع - فإنّ للبائع أن يحبسه عن المشتري، ويكون أحقّ به من سائر الغرماء‏.‏ أمّا إذا كان المشتري قد قبض المبيع، ولم يدفع الثّمن، ثمّ حجر عليه لفلسٍ، ووجد البائع عين ماله الّذي باعه للمفلس، فإنّه يكون أحقّ بالمبيع من سائر الغرماء، ولا يسقط حقّه بقبض المشتري للمبيع، لحديث أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «من أدرك ماله عند إنسانٍ أفلس فهو أحقّ به»، وبه قال عثمان وعليٌّ‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا نعلم أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالفهما‏.‏ فإن شاء البائع استردّه من المشتري وفسخ البيع، وإن شاء تركه وحاصّ باقي الغرماء بثمنه‏.‏ وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ هذا مع مراعاة الشّروط الّتي وضعت لاسترداد عين المبيع، ككونه باقياً في ملك المشتري، ولم يتغيّر، ولم يتعلّق به حقٌّ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ حقّ البائع في المبيع يسقط بقبض المشتري له بإذنه، ويصير أسوةً بالغرماء، فيباع ويقسم ثمنه بالحصص؛ لأنّ ملك البائع قد زال عن المبيع، وخرج من ضمانه إلى ملك المشتري وضمانه، فساوى باقي الغرماء في سبب الاستحقاق، وإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع كان له استرداده‏.‏ وإن كان البائع قبض بعض الثّمن، فقال مالكٌ‏:‏ إن شاء ردّ ما قبض وأخذ السّلعة كلّها، وإن شاء حاصّ الغرماء فيما بقي‏.‏ وقال الشّافعيّ‏:‏ يأخذ من سلعته بما بقي من الثّمن‏.‏ وقال جماعةٌ من أهل العلم‏:‏ إسحاق وأحمد‏:‏ هو أسوة الغرماء‏.‏ ولو بذل الغرماء للبائع الثّمن فيلزمه أخذ الثّمن عند المالكيّة، ولا كلام له فيه، وعند الشّافعيّة‏:‏ له الفسخ؛ لما في التّقديم من المنّة، وخوف ظهور غريمٍ آخر، وقيل‏:‏ ليس له الفسخ‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ لا يلزمه القبول من الغرماء، إلاّ إذا بذله الغريم للمفلس، ثمّ بذله المفلس لربّ السّلعة‏.‏ وفي الموضوع تفصيلاتٌ كثيرةٌ تنظر في ‏(‏حجرٌ - إفلاسٌ‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ الموت‏:‏

16 - من مات وعليه ديونٌ تعلّقت الدّيون بماله، وإذا مات مفلساً قبل تأدية ثمن ما اشتراه وقبضه، ووجد البائع عين ماله في التّركة، فقال الشّافعيّة‏:‏ يكون البائع بالخيار، بين أن يضرب مع الغرماء بالثّمن، وبين أن يفسخ، ويرجع في عين ماله؛ لما روي عن «أبي هريرة أنّه قال في رجلٍ أفلس‏:‏ هذا الّذي قضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه» فإن كانت التّركة تفي بالدّين ففيه وجهان‏:‏ أحدهما، وهو قول أبي سعيدٍ الإصطخريّ‏:‏ له أن يرجع في عين ماله، لحديث أبي هريرة، والثّاني‏:‏ لا يجوز أن يرجع في عين ماله، وهو المذهب؛ لأنّ المال يفي بالدّين، فلم يجز الرّجوع في المبيع، كالحيّ المليء‏.‏ وعند الحنابلة والمالكيّة والحنفيّة‏:‏ ليس للبائع الرّجوع في عين ماله، بل يكون أسوة الغرماء؛ لحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أيّما رجلٍ باع متاعه فأفلس الّذي ابتاعه، ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً، فوجد متاعه بعينه فهو أحقّ به، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء»‏.‏ ولأنّ الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة فأشبه‏.‏ ما لو باعه‏.‏

تاسعاً‏:‏ الرّشد‏:‏

17 - يجب دفع المال إلى المحجور عليه إذا بلغ ورشد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ حتّى لو منعه الوليّ، أو الوصيّ منه حين طلبه ماله يكون ضامناً‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ ‏(‏ر‏:‏ رشدٌ - حجرٌ‏)‏‏.‏

صيغة الاسترداد

18 - في العقد الفاسد ‏(‏وهو ما يجب فيه الفسخ والرّدّ‏)‏ يكون الفسخ بالقول، كفسخت العقد أو نقضت أو رددت، فينفسخ ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى رضى البائع؛ لأنّ هذا البيع استحقّ الفسخ حقّاً للّه تعالى‏.‏ ويكون الرّدّ بالفعل، وهو أن يردّ المبيع على بائعه على أيّ وجهٍ ردّه‏.‏ والرّجوع في الهبة - وهو استردادٌ - يكون بقول الواهب‏:‏ رجعت في هبتي، أو ارتجعتها، أو رددتها، أو عدت فيها‏.‏ أو يكون بالأخذ بنيّة الرّجوع، أو الإشهاد، أو بقضاء القاضي كما هو عند الحنفيّة‏.‏

كيفيّة الاسترداد

إذا ثبت حقّ الاسترداد لإنسانٍ في شيءٍ ما، بأيّ سببٍ من الأسباب السّابق ذكرها، فإنّ الاسترداد يتحقّق بعدّة أمورٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ استرداد عين الشّيء‏:‏

19 - إذا كان ما يستحقّ استرداده قائماً بعينه فإنّه يردّ بعينه، فالمغصوب، والمسروق، والمبيع بيعاً فاسداً، والمفسوخ لخيارٍ، أو لانقطاع مسلمٍ فيه، أو لإقالةٍ، كلّ هذا يستردّ بعينه ما دام قائماً‏.‏ وكذلك الأمانات، كالودائع والعواريّ تردّ بعينها ما دامت قائمةً، ومثل ذلك ما انتهت مدّته في العقد كالإجارة، والعاريّة المقيّدة بأجلٍ، وما وجد بعينه عند المفلس وثبت استحقاقه، وما يجوز الرّجوع فيه كالهبة‏.‏ والأصل في ذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «على اليد ما أخذت حتّى تردّ»‏.‏ وقوله‏:‏ «من وجد ماله بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به»‏.‏ وردّ العين هو الواجب الأصليّ ‏(‏إلاّ ما جاء في القرض من أنّه لا يجب ردّ العين، ولو كانت قائمةً، وإن كان ذلك جائزاً‏)‏ على ما ذهب إليه الحنابلة والمالكيّة، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وفي قولٍ للشّافعيّة‏.‏ هذا إذا كانت العين قائمةً بعينها دون حدوث تغييرٍ فيها، لكنّها قد تتغيّر بزيادةٍ، أو نقصٍ، أو تغيير صورةٍ، فهل يؤثّر ذلك على استرداد العين ‏؟‏ أورد الفقهاء في ذلك صوراً كثيرةً، وفروعاً متعدّدةً، وأهمّ ما ورد فيه ذلك‏:‏ البيع الفاسد، والغصب والهبة‏.‏ ونورد فيما يلي بعض القواعد الكلّيّة الّتي يندرج تحتها كثيرٌ من الفروع والمسائل‏.‏

أوّلاً‏:‏ بالنّسبة للبيع الفاسد والغصب‏:‏

20 - يتشابه الحكم في البيع الفاسد والغصب، حيث إنّ البيع الفاسد يجب فيه الفسخ والرّدّ حقّاً للشّرع، وكذلك المغصوب يجب ردّه، وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - التّغيير بالزّيادة‏:‏

21 - إذا تغيّر المبيع بيعاً فاسداً أو المغصوب بالزّيادة، فإن كانت الزّيادة متّصلةً متولّدةً من الأصل، كالسّمن والجمال، أو كانت منفصلةً، سواءٌ أكانت متولّدةً من الأصل، كالولد واللّبن والثّمرة، أم غير متولّدةٍ من الأصل، كالهبة والصّدقة والكسب، فإنّها لا تمنع الرّدّ، وللمستحقّ أن يستردّ الأصل مع الزّيادة؛ لأنّ الزّيادة نماء ملكه، وتابعةٌ للأصل، والأصل مضمون الرّدّ، فكذلك التّبع‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء في الغصب، وعند غير المالكيّة في المبيع بيعاً فاسداً‏.‏ أمّا عند المالكيّة فإنّ المبيع بيعاً فاسداً يفوت بالزّيادة، ولا يجب ردّ عينه‏.‏ وإن كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّدةٍ من الأصل، كمن غصب ثوباً فصبغه، أو سويقاً فلتّه بسمنٍ‏.‏ فعند الحنفيّة‏:‏ يمتنع الرّدّ في البيع الفاسد؛ لتعذّر الفصل، أمّا في الغصب فإنّ المالك بالخيار إن شاء ضمّنه قيمة الثّوب دون صبغٍ، ومثله السّويق، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصّبغ والسّمن فيهما، وذلك رعايةٌ للجانبين‏.‏ وعند المالكيّة‏.‏ لا ردّ في البيع الفاسد، وفي الغصب يخيّر المالك في الثّوب فقط، أمّا السّويق فلا يستردّ؛ لأنّه تفاضل طعامين‏.‏ وعند الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ يردّ لصاحبه، ويكونان شريكين في الزّيادة إن زاد بذلك، ويقول الشّافعيّة‏:‏ إن أمكن قلع الصّبغ أجبر عليه‏.‏

ب - التّغيير بالنّقص‏:‏

22 - إذا كان التّغيير بالنّقص، كما إذا نقص العقار بسكناه وزراعته، وكتخرّق الثّوب، فإنّه يردّ مع أرش النّقصان، وسواءٌ أكان النّقصان بآفةٍ سماويّةٍ، أم بفعل الغاصب والمشتري شراءً فاسداً، وهذا باتّفاقٍ في الغصب، وعند غير المالكيّة في البيع الفاسد حيث يعتبر التّغيير بالنّقص مانعاً للرّدّ وفوتاً عند المالكيّة، كالزّيادة‏.‏

ج - التّغيير بالصّورة والشّكل‏:‏

23 - وإذا تغيّرت صورة المستحقّ، بأن كان شاةً فذبحها وشواها، أو حنطةً فطحنها، أو غزلاً فنسجه، أو قطناً فغزله، أو ثوباً فخاطه قميصاً، أو طيناً جعله لبناً أو فخّاراً، فعند الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا ينقطع حقّ صاحبه في الاسترداد، ويجب ردّه لصاحبه؛ لأنّه عين ماله، وله مع ذلك أرش نقصه إن نقص بذلك‏.‏ وعند الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ ينقطع حقّ صاحبه في استرداد عينه، لأنّ اسمه قد تبدّل‏.‏

د - التّغيير بالغرس والبناء في الأرض‏:‏

24 - والغرس والبناء في الأرض لا يمنع الاسترداد، ويؤمر صاحب الغرس والبناء بقلع غرسه، ونقض بنائه، وردّ الأرض لصاحبها، وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة، وهو الحكم أيضاً عند أبي حنيفة والمالكيّة في الغصب دون البيع الفاسد‏.‏ فعند المالكيّة‏:‏ يعتبر فوتاً في البيع الفاسد، وعند أبي حنيفة‏:‏ البناء والغرس حصلا بتسليطٍ من البائع، فينقطع حقّه في الاسترداد‏.‏ وعلى الجملة فإنّه عند الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ لا ينقطع حقّ المالك في استرداد العين إلاّ بالهلاك الكلّيّ، وعند الحنفيّة‏:‏ لا ينقطع حقّ الاسترداد في المستحقّ إلاّ إذا تغيّرت صورته وتبدّل اسمه‏.‏ والأمر كذلك عند المالكيّة في الغصب، أمّا في البيع الفاسد فإنّ الزّيادة والنّقصان والتّغيير يعتبر فوتاً، ولا يردّ به المبيع‏.‏ وفي الموضوع تفاصيل كثيرةٌ ومسائل متعدّدةٌ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ غصبٌ - بيعٌ - فسادٌ - فسخٌ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ بالنّسبة للهبة‏:‏

25 - من وهب لمن يجوز الرّجوع عليه - على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك، تفصيله في الهبة - فإنّه يجوز للواهب أن يرجع في هبته، ويستردّها ما دامت قائمةً بعينها‏.‏ فإن زادت الهبة في يد الموهوب له، فإمّا أن تكون زيادةً متّصلةً أو منفصلةً، فإن كانت الزّيادة منفصلةً - كالولد والثّمرة - فهذه الزّيادة لا تمنع الاسترداد، لكنّه يستردّ الأصل فقط، دون الزّيادة‏.‏ وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والحنفيّة‏.‏ وإن كانت الزّيادة متّصلةً، فإنّها لا تمنع الرّجوع عند الشّافعيّة ويرجع بالزّيادة‏.‏ أمّا عند الحنابلة والحنفيّة‏:‏ فإنّ الزّيادة المتّصلة تمنع الرّجوع في الهبة‏.‏ وإذا نقصت الهبة في يد الواهب فإنّها لا تمنع الرّجوع، وللواهب أن يستردّها من غير أرش ما نقص‏.‏ والهبة بشرط ثوابٍ معلومٍ تصحّ، فإن كان الثّواب مجهولاً لم تصحّ، كما يقول الحنابلة والشّافعيّة، وصارت كالبيع الفاسد، وحكمها حكمه، وتردّ بزوائدها المتّصلة والمنفصلة؛ لأنّها نماء ملك الواهب‏.‏ ومذهب المالكيّة يجيز للأب، ولمن وهب هبةً لثوابٍ الرّجوع فيها، إذا كانت قائمةً بعينها، فإن حدث فيها تغييرٌ بزيادةٍ أو نقصٍ فلا تستردّ، أو كان الولد الموهوب له تزوّج لأجل الهبة، فذلك يمنع الرّجوع فيها‏.‏

الثّاني‏:‏ الإتلاف بواسطة المستحقّ‏:‏

26 - يعتبر إتلاف المالك ما يستحقّه عند واضع اليد عليه استرداداً له، فالطّعام المغصوب إذا أطعمه الغاصب لمالكه، فأكله عالماً أنّه طعامه برئ الغاصب من الضّمان، واعتبر المالك مستردّاً لطعامه؛ لأنّه أتلف ماله عالماً من غير تغريرٍ، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ فإن لم يعلم المالك أنّه طعامه، فعند الحنابلة، وغير الأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ لا يبرأ الغاصب من الضّمان‏.‏ وإذا قبض المشتري المبيع، وثبت للبائع حقّ الاسترداد فيه لأيّ سببٍ، فأتلفه في يد المشتري، صار مستردّاً للمبيع بالاستهلاك‏.‏ وإذا هلك الباقي من سراية جناية البائع يصير مستردّاً للجميع، ويسقط عن المشتري جميع الثّمن؛ لأنّ تلف الباقي حصل مضافاً إلى فعله فصار مستردّاً للكلّ‏.‏ ولو قتل البائع المبيع يعتبر مستردّاً بالقتل، وكذلك لو حفر البائع بئراً فوقع فيه ومات؛ لأنّ ذلك في معنى القتل فيصير مستردّاً‏.‏

من له حقّ الاسترداد

27 - يثبت للمالك - إن كان أهلاً للتّصرّف - استرداد ما يستحقّ له عند غيره‏.‏ وكما يثبت هذا الحقّ للمالك، فإنّه يثبت لمن يقوم مقامه، فالوليّ أو الوصيّ يقوم مقام المحجور عليه في تخليص حقّه من ردّ وديعةٍ، ومغصوبٍ، ومسروقٍ، وما يشترى شراءً فاسداً، وجمع الأموال الضّائعة، وهو الّذي يقوم بالرّفع للحاكم إذا لم يمكنه الاسترداد‏.‏ وإذا تبرّع الصّبيّ لا تنفذ تبرّعاته، ويتعيّن على الوليّ ردّها‏.‏ وكذلك الوكيل يقوم مقام موكّله فيما وكّل فيه، والرّدّ على الوكيل حينئذٍ يكون كالرّدّ على الموكّل، حيث إنّ الوكالة تجوز في الفسوخ، وفي قبض الحقوق‏.‏ ومثل ذلك ناظر الوقف، فإنّه يملك ردّ التّصرّفات الّتي تضرّ بالوقف‏.‏ والحاكم أو القاضي له النّظر في مال الغائب، ويأخذ له المال من الغاصب والسّارق ويحفظه عليه؛ لأنّ القاضي ناظرٌ في حقّ العاجز‏.‏

28 - كذلك للإمام حقّ الاسترداد، فمن أقطعه الإمام شيئاً من الموات لم يملكه بذلك، لكن يصير أحقّ به، كالمتحجّر الشّارع في الإحياء؛ لما روي من حديث بلال بن الحارث حيث استرجع عمر منه ما عجز عن إحيائه، من العقيق الّذي أقطعه إيّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو ملكه لم يجز استرجاعه‏.‏ وكذلك ردّ عمر قطيعة أبي بكرٍ لعيينة بن حصنٍ، فسأل عيينة أبا بكرٍ أن يجدّد له كتاباً فقال‏:‏ لا، واللّه لا أجدّد شيئاً ردّه عمر‏.‏ لكن المقطع يصير أحقّ به من سائر النّاس، وأولى بإحيائه، فإن أحياه وإلاّ قال له السّلطان‏:‏ ارفع يدك عنه‏.‏

موانع الاسترداد

29 - سقوط حقّ المالك أو من يقوم مقامه في الاسترداد لمانعٍ من الموانع يشمل ما يأتي‏:‏

أ - سقوط الحقّ في استرداد العين مع سقوط الضّمان‏.‏

ب - سقوط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان‏.‏

ج - سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً لا ديانةً‏.‏

أوّلاً‏:‏ يسقط الحقّ في استرداد العين والضّمان بما يأتي‏:‏

أ - حكم الشّرع‏:‏

30 - وذلك كالصّدقة، فمن تصدّق بصدقةٍ فإنّه لا يجوز الرّجوع فيها؛ لأنّ الصّدقة لإرادة الثّواب من اللّه عزّ وجلّ، وقد قال سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ من وهب هبةً على وجه الصّدقة فإنّه لا يرجع فيها‏.‏ وهذا في الجملة، لأنّ الرّأي الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ الصّدقة للتّطوّع على الولد يجوز الرّجوع فيها‏.‏ وكذلك لا يجوز الرّجوع في الهبة لغير الولد عند الجمهور، وفي إحدى الرّوايتين عند أحمد‏:‏ لا يجوز رجوع المرأة فيما وهبته لزوجها‏.‏ ولذي الرّحم المحرم عند الحنفيّة، وكذلك هبة أحد الزّوجين للآخر عندهم، واستدلّ الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّةً فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده»‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها» أي لم يعوّض، وصلة الرّحم عوضٌ معنًى؛ لأنّ التّواصل سبب الثّواب في الدّار الآخرة، فكان أقوى من المال‏.‏ وكذلك الوقف إذا تمّ ولزم، لا يجوز الرّجوع فيه؛ لأنّه من الصّدقة، وقد روى عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ «أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّي أصبت أرضاً بخيبر لم أصب قطّ مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها ‏؟‏ فقال‏:‏ إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها، غير أنّه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث»‏.‏ والخمر لا تستردّ؛ لحرمة تملّكها للمسلم، فلا يجوز له استردادها إن غصبت منه، ويجب إراقتها؛ لما روي أنّ أبا طلحة «سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أيتامٍ ورثوا خمراً، فأمر بإراقتها»‏.‏

ب - التّصرّف والإتلاف‏:‏

31 - الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها سواءٌ أكانت للابن أم للأجنبيّ - على اختلاف الفقهاء في ذلك - إذا تصرّف فيها الموهوب له أو أتلفها، فإنّه يسقط حقّ الواهب في الرّجوع فيها مع سقوط الضّمان‏.‏

ج - التّلف‏:‏

32 - ما كان أمانةً، كالمال تحت يد الوكيل وعامل القراض، وكالوديعة، وكالعاريّة عند الحنفيّة والمالكيّة - إذا تلف دون تعدٍّ أو تفريطٍ - فإنّه يسقط حقّ المالك في الاسترداد مع سقوط الضّمان‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يسقط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان‏:‏

33 - استرداد العين هو الأصل لما يجب فيه الرّدّ، كالمغصوب، والمبيع بيعاً فاسداً، فما دام قائماً بعينه فإنّه يجب ردّه‏.‏ بل إنّ القطع في السّرقة لا يمنع الرّدّ، فيجتمع على السّارق‏:‏ القطع وضمان ما سرقه؛ لأنّهما حقّان لمستحقّين، فجاز اجتماعهما، فيردّ السّارق ما سرقه لمالكه إن بقي؛ لأنّه عين ماله‏.‏ وقد يحدث في العين ما يمنع ردّها وذلك باستهلاكها، أو تلفها، أو تغيّرها تغيّراً يخرجها عن اسمها، وعندئذٍ يثبت الحقّ في الضّمان ‏(‏المثل أو القيمة‏)‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏ضمانٌ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً لا ديانةً‏:‏

34 - وذلك كما لو أنّ مسلماً دخل دار الحرب بأمانٍ، فأخذ شيئاً من أموالهم لا يحكم عليه بالرّدّ ولا بالضّمان، ويلزمه ذلك فيما بينه وبين اللّه جلّ جلاله‏.‏

عودة حقّ الاسترداد بعد زوال المانع

35 - ما وجب ردّه ثمّ بطل حقّ الاسترداد فيه لمانعٍ، فإنّ هذا الحقّ يعود إذا زال المانع؛ لأنّ المانع إذا زال عاد الممنوع، ومن أمثلة ذلك‏:‏ البيع الفاسد - حيث يجب فيه الرّدّ - إذا تصرّف فيه المشتري ببيعٍ سقط حقّ الرّدّ، فإن ردّ على المشتري بخيار شرطٍ، أو رؤيةٍ، أو عيبٍ بقضاء قاضٍ، وعاد على حكم الملك الأوّل عاد حقّ الفسخ والرّدّ؛ لأنّ الرّدّ بهذه الوجوه فسخٌ محضٌ، فكان دفعاً للعقد من الأصل وجعلاً له كأن لم يكن‏.‏ أمّا لو اشتراه ثانياً، أو عاد إليه بسببٍ مبتدأٍ لا يعود حقّ الفسخ؛ لأنّ الملك اختلف لاختلاف السّبب، فكان اختلاف الملكين بمنزلة اختلاف العقدين‏.‏ هذا هو مذهب الحنفيّة، ويسايره مذهب المالكيّة في عودة حقّ الاسترداد إذا زال المانع، غير أنّهم يخالفون الحنفيّة في أنّه لو عاد المبيع الفاسد إلى المشتري بأيّ وجهٍ كان - سواءٌ كان عوده اختياريّاً أو ضروريّاً كإرثٍ - فإنّه يعود حقّ الاسترداد، ما لم يحكم حاكمٌ بعدم الرّدّ، أو كان الفوات راجعاً لتغيّر السّوق، ثمّ عاد السّوق إلى حالته الأولى، فلا يرتفع حكم السّبب المانع، ولا يجب على المشتري الرّدّ‏.‏ أمّا الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ فإنّ البيع الفاسد عندهم لا يحصل به الملك للمشتري، ولا ينفذ فيه تصرّف المشتري ببيعٍ ولا هبةٍ ولا عتقٍ ولا غيره، هو واجب الرّدّ ما لم يتلف فيكون فيه الضّمان‏.‏ ومن ذلك‏:‏ أنّه إذا وجبت الدّية في الجناية على منافع الأعضاء، ثمّ عادت إلى حالتها الطّبيعيّة فإنّ الدّية تستردّ‏.‏ وعلى ذلك‏:‏ من جنى على سمع إنسانٍ فزال السّمع، وأخذت منه الدّية، ثمّ عاد السّمع، وجب ردّ الدّية؛ لأنّ السّمع لم يذهب؛ لأنّه لو ذهب لما عاد‏.‏ ومن جنى على عينين فذهب ضوءهما وجبت الدّية، فإن أخذت الدّية، ثمّ عاد الضّوء وجب ردّ الدّية‏.‏ وهذا عند الجمهور، وعند الحنفيّة خلافٌ بين أبي حنيفة وصاحبيه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ جنايةٌ - ديةٌ‏)‏‏.‏

أثر الاسترداد

36 - الاسترداد حقٌّ من الحقوق الّتي تثبت نتيجةً لبعض التّصرّفات، ففي الغصب يثبت للمغصوب منه حقّ الاسترداد من الغاصب، وفي العاريّة يثبت للمعير حقّ الاسترداد من المستعير، وفي الوديعة يثبت للمودع حقّ الاسترداد من المودع، وفي الرّهن يثبت للرّاهن حقّ استرداد المرهون من المرتهن بعد وفاء الدّين‏.‏ وما وجب ردّه بعينه كالمغصوب، والمبيع بيعاً فاسداً، والأمانات حين طلبها إذا ردّت أو استردّها كلّها فإنّه يترتّب على ذلك ما يأتي‏:‏

أ - البراءة من الضّمان، فالغاصب يبرأ بردّ المغصوب، والمودع يبرأ بردّ الوديعة، وهكذا‏.‏

ب - يعتبر الرّدّ فسخاً للعقد، فردّ العاريّة الوديعة والمبيع بيعاً فاسداً يعتبر فسخاً للعقد‏.‏

ج - ترتّب بعض الحقوق، كثبوت الرّجوع بالثّمن لمن استحقّ بيده شيءٌ على من اشتراها منه‏.‏

استرسالٌ

التعريف

1 - الاسترسال أصله في اللّغة‏:‏ السّكون والثّبات‏.‏ ومن معانيه لغةً‏:‏ الاستئناس والطّمأنينة إلى الإنسان والثّقة به‏.‏ ويستعمله الفقهاء بعدّة معانٍ‏:‏

أ - بمعنى الطّمأنينة إلى الإنسان والثّقة به، وذلك في البيع‏.‏

ب - بمعنى الانسحاب واللّحاق والانجرار من الشّيء إلى غيره، وذلك في الولاء‏.‏

ج - بمعنى الانطلاق والانبعاث بدون باعثٍ، وذلك في الصّيد‏.‏

الحكم الإجمالي

أوّلاً - بالنّسبة للبيع‏:‏

2 - المسترسل هو الجاهل بقيمة السّلعة، ولا يحسن المبايعة، قال الإمام أحمد‏:‏ المسترسل‏:‏ هو الّذي لا يماكس، فكأنّه استرسل إلى البائع، فأخذ ما أعطاه، من غير مماكسةٍ ولا معرفةٍ بغبنه‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في ثبوت الخيار للمسترسل إذا غبن غبناً يخرج عن العادة‏.‏ فعند المالكيّة والحنابلة‏:‏ يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «غبن المسترسل حرامٌ»‏.‏ وعند الشّافعيّة، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة‏:‏ لا يثبت له الرّدّ؛ لأنّ المبيع سليمٌ، ولم يوجد من جهة البائع تدليسٌ، وإنّما فرّط المشتري في ترك التّأمّل، فلم يجز له الرّدّ‏.‏ وفي روايةٍ أخرى عند الحنفيّة‏:‏ أنّه يفتى بالرّدّ إن حدث غررٌ، وذلك رفقاً بالنّاس‏.‏ وللفقهاء تفصيلٌ فيما يعتبر غبناً وما لا يعتبر، وهل يقدّر بالثّلث أو أقلّ أو أكثر وغير ذلك، يرجع إليه في مصطلح ‏(‏غبنٌ - خيارٌ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ بالنّسبة للصّيد‏:‏

3 - يشترط لإباحة ما قتله الحيوان الجارح إرسال الصّائد له‏.‏ فإذا استرسل من نفسه دون إرسال الصّائد فلا يحلّ ما قتله، إلاّ إذا وجده غير منفوذ المقاتل فذكّاه‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء، إلاّ أنّهم يختلفون فيما إذا أشلاه الصّائد - أي أغراه - أو زجره أثناء استرساله، هل يحلّ أو لا ‏؟‏ على تفصيلٍ موطنه مصطلح ‏(‏صيدٌ - وإرسالٌ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ بالنّسبة للولاء‏:‏

4 - إذا تزوّج المملوك حرّةً مولاةً لقومٍ أعتقوها، فولدت له أولاداً فهم موالٍ لموالي أمّهم، ما دام الأب رقيقاً مملوكاً، فإذا عتق الأب استرسل الولاء ‏(‏انجرّ وانسحب‏)‏ من موالي الأمّ إلى موالي العبد‏.‏ أمّا لو ولدت الأمة قبل عتقها، ثمّ عتقت بعد ذلك فلا ينسحب الولاء؛ لأنّ الولد مسّه رقٌّ، وهذا باتّفاقٍ‏.‏

مواطن البحث

5 - ينظر تفصيل هذه المواضيع في باب الخيار في البيع، وفي باب الولاء، وفي شروط حلّ الصّيد في باب الصّيد‏.‏

استرقاقٌ

التعريف

1 - الاسترقاق لغةً‏:‏ الإدخال في الرّقّ، والرّقّ‏:‏ كون الآدميّ مملوكاً مستعبداً‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الأسر والسّبي‏:‏

2 - الأسر هو‏:‏ الشّدّ بالإسار، والإسار‏:‏ ما يشدّ به، وقد يطلق الأسر على الأخذ ذاته‏.‏ والسّبي هو‏:‏ الأسر أيضاً، ولكن يغلب إطلاق السّبي على أخذ النّساء والذّراريّ‏.‏ والأسر والسّبي مرحلةٌ متقدّمةٌ على الاسترقاق في الجملة‏.‏ وقد يتبعها استرقاقٌ أو لا يتبعها، إذ قد يؤخذ المحارب، ثمّ يمنّ عليه، أو يفدى، أو يقتل ولا يسترقّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ للاسترقاق

3 - يختلف حكم الاسترقاق باختلاف المسترقّ ‏(‏بالفتح‏)‏، فإن كان الأسير ممّن يجوز قتله في الحرب فلا يجب استرقاقه، بل يجوز، ويكون النّظر فيه إلى الإمام، إن رأى في قتله مصلحةً للمسلمين قتله، وإن رأى في استرقاقه مصلحةً للمسلمين استرقّه، كما يجوز المنّ والفداء أيضاً‏.‏ أمّا إن كان ممّن لا يجوز قتله في الحرب فقد اختلف الفقهاء فيه على اتّجاهين‏:‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب استرقاقه، بل إنّهم قالوا‏:‏ إنّه يسترقّ بنفس الأسر‏.‏ وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز استرقاقه، حيث يخيّر الإمام بين الاسترقاق وغيره، كجعلهم ذمّةً للمسلمين، أو المفاداة بهم، أو المنّ عليهم - كما فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكّة - على ما يرى من المصلحة في ذلك‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ أسرى‏)‏

حكمة تشريع الاسترقاق

4 - قال محمّد بن عبد الرّحمن البخاريّ شيخ صاحب الهداية‏:‏ «الرّقّ إنّما ثبت في بني آدم لاستنكافهم من عبوديّتهم للّه تعالى الّذي خلقهم، وكلّهم عبيده وأرقّاؤه، فإنّه خلقهم وكوّنهم، فلمّا استنكفوا عن عبوديّتهم للّه تعالى جزاهم برقّهم لعباده، فإذا أعتقه فقد أعاده المعتق إلى رقّه حقّاً للّه تعالى خالصاً، فعسى يرى هذه المنّة‏:‏ أنّه لو استنكف من عبوديّته للّه تعالى لابتلي برقٍّ لعبيده، فيقرّ للّه تعالى بالوحدانيّة، ويفتخر بعبوديّته، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً للّه‏}‏‏.‏

5 - وكان طريق التّخلّص من الرّقّ الّذي انتهجه الإسلام يتلخّص في أمرين‏:‏ الأمر الأوّل‏:‏ حصر مصادر الاسترقاق بمصدرين اثنين لا ثالث لهما، وإنكار أن يكون أيّ مصدر غيرهما مصدراً مشروعاً للاسترقاق‏:‏ أحدهما‏:‏ الأسرى والسّبي من حربٍ لعدوٍّ كافرٍ إذا رأى الإمام أنّ من المصلحة استرقاقهم‏.‏ وثانيهما‏:‏ ما ولد من أمٍّ رقيقةٍ من غير سيّدها، أمّا لو كان من سيّدها فهو حرٌّ‏.‏ الأمر الثّاني‏:‏ فتح أبواب تحرير الرّقيق على مصاريعها، كالكفّارات، والنّذور، والعتق تقرّباً إلى اللّه تعالى، والمكاتبة، والاستيلاد، والتّدبير، والعتق بملك المحارم، والعتق بإساءة المعاملة، وغير ذلك‏.‏

من له حقّ الاسترقاق

6 - اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الّذي له حقّ الاسترقاق أو المنّ أو الفداء هو الإمام الأعظم للمسلمين، بحكم ولايته العامّة، أو من ينيبه، ولذلك جعل إليه أمر الخيار في الاسترقاق وعدمه‏.‏

أسباب الاسترقاق

أوّلاً - من يضرب عليه الرّقّ‏:‏

7 - لا يجوز ضرب الرّقّ على النّساء إلاّ إذا توفّرت فيمن يسترقّ صفتان‏:‏ الصّفة الأولى الكفر، والصّفة الثّانية الحرب، سواءٌ أكان محارباً بنفسه، أم تابعاً لمحاربٍ، على التّفصيل التّالي‏:‏

أ - الأسرى من الّذين اشتركوا في حرب المسلمين فعلاً‏.‏

8 - وهؤلاء إمّا أن يكونوا من أهل الكتاب، أو من المشركين، أو من المرتدّين، أو من البغاة‏.‏

‏(‏أ‏)‏ فإن كانوا من أهل الكتاب‏:‏ جاز استرقاقهم بالاتّفاق، والمجوس يعاملون مثلهم في هذا‏.‏

‏(‏ب‏)‏ أمّا إن كانوا من المشركين‏:‏ فإمّا أن يكونوا من العرب أو من غيرهم، فإن كانوا من غير العرب فقد قال الحنفيّة، والمالكيّة، وبعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة‏:‏ يجوز استرقاقهم‏.‏ وقال بعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة‏:‏ لا يجوز‏.‏ أمّا إن كانوا من العرب‏:‏ فقد ذهب المالكيّة، وبعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة إلى جواز استرقاقهم‏.‏ واستثنى المالكيّة من ذلك القرشيّين، فقالوا‏:‏ لا يجوز استرقاقهم‏.‏ وذهب الحنفيّة، وبعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة إلى أنّه لا يجوز استرقاقهم، بل لا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فإن رفضوه قتلوا؛ وعلّل الحنفيّة هذا التّفريق في الحكم بين العربيّ وغيره من المشركين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقّهم أظهر، فكان كفرهم - والحالة هذه - أغلظ من كفر العجم‏.‏

‏(‏ج‏)‏ وأمّا إن كانوا من المرتدّين‏:‏ فإنّه لا يجوز استرقاقهم بالاتّفاق، ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فإن رفضوه قتلوا لغلظ كفرهم‏.‏

‏(‏د‏)‏ وأمّا إن كانوا من البغاة‏:‏ فإنّه لا يجوز استرقاقهم بالاتّفاق؛ لأنّهم مسلمون، والإسلام يمنع ابتداء الرّقّ‏.‏

ب - الأسرى من الّذين أخذوا في الحرب ممّن لا يجوز قتلهم، كالنّساء والذّراريّ وغيرهم‏:‏

9 - وهؤلاء يجوز استرقاقهم بالاتّفاق، إن كانوا من أهل الكتاب، أو من الوثنيّين المشركين، سواءٌ أكانوا من العرب أو من غيرهم‏.‏ واستثنى المالكيّة من ذلك الرّهبان المنقطعين عن النّاس في الجبال، إن لم يكن لهم رأيٌ في الحرب، وإنّما كان الاسترقاق لهؤلاء دون القتل للتّوسّل إلى إسلامهم؛ لأنّهم ليسوا من أهل الحرب‏.‏ واستدلّوا على جواز استرقاق أهل الكتاب «باسترقاق رسول اللّه نساء بني قريظة وذراريّهم»، واستدلّوا على جواز استرقاق سبي المرتدّين باسترقاق أبي بكرٍ الصّدّيق نساء المرتدّين من العرب، واستدلّوا على جواز استرقاق سبي المشركين «باسترقاق رسول اللّه نساء هوازن وذراريّهم، وهم من صميم العرب»‏.‏ أمّا من يؤخذ من نساء البغاة وذراريّهم، فلا يسترقّون بالاتّفاق؛ لأنّهم مسلمون، والإسلام يمنع ضرب الرّقّ ابتداءً‏.‏

ج - استرقاق من أسلم من الأسرى أو السّبي‏:‏

10 - من أسلم من الأسرى بعد الأخذ فيجوز استرقاقه؛ لأنّ الإسلام لا ينافي الرّقّ جزاءً على الكفر الأصليّ، وقد وجد الإسلام بعد انعقاد سبب الملك، وهو الأخذ‏.‏

د - المرأة المرتدّة في بلاد الإسلام‏:‏

11 - ذهب الجمهور إلى أنّ المرأة إذا ارتدّت، وأصرّت على ردّتها لا تسترقّ، بل تقتل كالمرتدّ، ما دامت في دار الإسلام‏.‏ وعن الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وأبي حنيفة في النّوادر‏:‏ تسترقّ في دار الإسلام أيضاً‏.‏ قيل‏:‏ لو أفتي بهذه لا بأس به فيمن كانت ذات زوجٍ، حسماً لقصدها السّيّئ بالرّدّة من إثبات الفرقة‏.‏

هـ - استرقاق الذّمّيّ النّاقض للذّمّة‏:‏

12 - إذا أتى الذّمّيّ ما يعتبر نقضاً للذّمّة - على اختلاف الاجتهادات فيما يعتبر نقضاً للذّمّة وما لا يعتبر ‏(‏ر‏:‏ ذمّةٌ‏)‏ - فإنّه يجوز استرقاقه وحده، دون نسائه وذراريّه؛ لأنّه بنقضه الذّمّة قد عاد حربيّاً، فيطبّق عليه ما يطبّق على الحربيّين‏.‏ أمّا نساؤه وذراريّه فيبقون على الذّمّة، إن لم يظهر منهم نقضٌ لها‏.‏

و - الحربيّ الّذي دخل إلينا بغير أمانٍ‏.‏

13 - إذا دخل الحربيّ بلادنا بغير أمانٍ، فمقتضى قول أبي حنيفة، والشّافعيّة، والحنابلة في الجملة‏:‏ أنّه يصير فيئاً بالدّخول، ويجوز عندئذٍ استرقاقه، إلاّ الرّسل فإنّهم لا يرقّون بالاتّفاق ‏(‏ر‏:‏ رسولٌ‏)‏‏.‏ ويقول الشّافعيّة‏:‏ إن ادّعى أنّه إنّما دخل ليسمع كلام اللّه، وليتعرّف على شريعة الإسلام فإنّه لا يصير فيئاً‏.‏

ز - التّولّد من الرّقيقة‏:‏

14 - من المقرّر في الفقه الإسلاميّ أنّ الولد يتبع أمّه في الحرّيّة، فإذا كانت الأمّ حرّةً كان ولدها حرّاً، وإن كانت أمةً كان ولدها رقيقاً، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏ ويستثنى من ذلك ما لو كان التّولّد من سيّد الأمة، إذ يولد حرّاً وينعقد لأمّه سبب الحرّيّة، فتصبح حرّةً بموت سيّدها‏.‏

انتهاء الاسترقاق

15 - ينتهي الاسترقاق بالعتق‏.‏ والعتق قد يكون بحكم الشّرع، كمن ولدت من سيّدها تعتق بموته، وكمن ملك ذا رحمٍ منه فإنّه يعتق عليه بمجرّد الملك‏.‏ وقد يكون العتق بالإعتاق لمجرّد التّقرّب إلى اللّه تعالى، أو لسببٍ موجبٍ للعتق، كأن يعتقه في كفّارةٍ ‏(‏ر‏:‏ كفّارةٌ‏)‏، أو نذرٍ ‏(‏ر‏:‏ نذرٌ‏)‏‏.‏ كما تنتهي بالتّدبير، وهو أن يجعله حرّاً دبر وفاته أي بعدها ‏(‏ر‏:‏ تدبيرٌ‏)‏، أو بالمكاتبة، أو إجبار وليّ الأمر سيّداً على إعتاق عبده لإضراره به ‏(‏ر‏:‏ عتقٌ‏)‏‏.‏

آثار الاسترقاق

16 - أ - يترتّب على الاسترقاق آثارٌ كثيرةٌ، منها ما يتعلّق بالعبادات البدنيّة المسنونة إذا كانت مخلّةً بحقّ السّيّد، كصلاة الجماعة مثلاً ‏(‏ر‏:‏ صلاة الجماعة‏)‏، أو الواجبات الكفائيّة؛ لإخلالها بحقّ السّيّد أيضاً، أو لأمرٍ آخر كالجهاد، فإنّه يرخّص للعبد في تركها‏.‏ ومنها جميع العبادات الماليّة، فإنّها تسقط عن المرء باسترقاقه، لأنّ العبد لا يملك المال، كالزّكاة، وصدقة الفطر، والصّدقات والحجّ‏.‏

17 - ب - الواجبات الماليّة على من استرقّ إن كان لها بدلٌ بدنيٌّ، فإنّه يصار إلى بدلها، كالكفّارات، فالرّقيق لا يكفّر في الحنث في اليمين بالعتق ولا بالإطعام ولا بالكسوة، ولكنّه يكفّر بالصّيام‏.‏ أمّا إن لم يكن لهذه الواجبات الماليّة بدلٌ بدنيٌّ، فإنّها تتعلّق بعين المسترقّ، فإذا جنى العبد على يد إنسانٍ فقطعها خطأً، وكانت ديتها أكثر من قيمة العبد، لم يكلّف المالك بأكثر من دفع العبد إلى المجنيّ عليه، كما يذكر في أبواب الجنايات‏.‏ وكذا إذا استدان من شخصٍ بغير إذن سيّده، فإنّ هذا الدّين يتعلّق بعينه، ويبقى في ذمّته، ولا يكلّف سيّده بوفائه‏.‏ فإن استرقّ وعليه دينٌ لمسلمٍ أو ذمّيٍّ لم يسقط الدّين عنه؛ لأنّ شغل ذمّته قد حصل، ولم يوجد ما يسقطه، بخلاف ما إذا كان الدّين لحربيٍّ، فإنّه يسقط؛ لعدم احترام الحربيّ‏.‏

18 - ج - والاسترقاق يمنع المسترقّ من سائر التّبرّعات كالهبة، والصّدقة، والوصيّة ونحو ذلك‏.‏

19 - د - كما يمنع الاسترقاق من سائر الاستحقاقات الماليّة، فإن وقع شيءٌ منها استحقّه المالك لا الرّقيق، فالرّقيق لا يرث، وما يستحقّه من أرش الجناية عليه فهو لسيّده‏.‏ وإن استرقّ وله دينٌ على مسلمٍ أو ذمّيٍّ، فإنّ سيّده هو الّذي يطالب بهذا الدّين، أمّا إن كان الدّين على حربيٍّ فيسقط‏.‏

20 - هـ - وإذا سبي الصّبيّ الصّغير دون والديه، حكم بإسلامه تبعاً للسّابي؛ لأنّ له عليه ولايةً، وليس معه من هو أقرب إليه منه فيتبعه‏.‏

21 - و - والاسترقاق يمنع الرّجل من أن تكون له ولايةٌ على غيره، وعلى هذا فإنّ الرّقيق لا يكون أميراً ولا قاضياً؛ لأنّه لا ولاية له على نفسه، فكيف تكون له الولاية على غيره، وبناءً على ذلك فإنّه لا يصحّ أمان الرّقيق، ولا تقبل شهادته أيضاً، على خلافٍ في ذلك‏.‏

22 - ز - والاسترقاق مخفّضٌ للعقوبة، فتنصّف الحدود في حقّ الرّقيق، إن كانت قابلةً للتّنصيف‏.‏

23 - ح - وللاسترقاق أثرٌ في النّكاح، إذ العبد ليس بكفءٍ للحرّة، ولا بدّ فيه من إذن السّيّد، ولا يملك العبد نكاح أكثر من امرأتين، ولا تنكح أمةٌ على حرّةٍ‏.‏

24 - ط - وله أثرٌ في الطّلاق أيضاً، إذ لا يملك الرّقيق من الطّلاق أكثر من طلقتين، وإذا نكح بغير إذن سيّده فالطّلاق بيد سيّده‏.‏

25 - ي - وله أثرٌ في العدّة، إذ عدّة الأمة في الطّلاق حيضتان، لا ثلاث حيضٍ، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ ينظر في مصطلحاته‏.‏

استسعاءٌ

التعريف

1 - الاستسعاء لغةً‏:‏ سعي الرّقيق في فكاك ما بقي من رقّه إذا عتق بعضه، فيعمل ويكسب، ويصرف ثمنه إلى مولاه‏.‏ واستسعيته في قيمته‏:‏ طلبت منه السّعي‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك وإعتاق المستسعى غير الإعتاق بالكتابة، فالمستسعى لا يردّ إلى الرّقّ، لأنّه إسقاطٌ لا إلى أحدٍ، والإسقاط لا إلى أحدٍ ليس فيه معنى المعاوضة، بخلاف المكاتب؛ لأنّ الكتابة عقدٌ ترد عليه الإقالة والفسخ، لكنّه يشبه الكتابة في أنّه إعتاقٌ بعوضٍ‏.‏ ومحلّ الاستسعاء‏:‏ من أعتق بعضه‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - أغلب الفقهاء على أنّ المولى لو أعتق جزءاً من عبده فإنّه يسري العتق إلى باقيه، ولا يستسعى؛ لأنّ العتق لا يتبعّض ابتداءً، ولحديث أبي المليح عن أبيه‏:‏ «أنّ رجلاً أعتق شقصاً له من غلامٍ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ليس للّه شريكٌ»، وأجاز عتقه‏.‏ رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظٍ‏:‏ «هو حرٌّ كلّه، ليس للّه شريكٌ»‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يستسعى في الباقي‏.‏

3 - أمّا إذا كان العبد مشتركاً، وأعتق أحد الشّركاء نصيبه، فإنّ الفقهاء يفرّقون بين ما إذا كان المعتق موسراً أو معسراً، فإن كان موسراً فقد خيّر أبو حنيفة الشّريك الآخر بين ثلاثة أمورٍ‏:‏ العتق، أو تضمين الشّريك المعتق، أو استسعاء العبد‏.‏ وإن كان معسراً فالشّريك بالخيار، بين الإعتاق وبين الاستسعاء فقط، وقال أبو يوسف ومحمّدٌ هنا‏:‏ ليس له إلاّ الضّمان مع اليسار، والسّعاية مع الإعسار، وقولهما هو روايةٌ عن أحمد، لما رواه أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أعتق شقصاً في مملوكه فعليه أن يعتقه كلّه إن كان له مالٌ، وإلاّ استسعى العبد غير مشقوقٍ عليه» أي لا يغلي عليه الثّمن‏.‏ والمالكيّة، والشّافعيّة، وظاهر مذهب الحنابلة على أنّه مع اليسار يسري العتق إلى الباقي، ويغرم المعتق قيمة حصّة الشّركاء، فإن كان معسراً فلا سراية ولا استسعاء‏.‏

4 - ويقع الخلاف بين الفقهاء كذلك إذا أعتق في مرض موته أو دبّر، أو أوصى بعبيده، ولم يكن له مالٌ سواهم، فقال أبو حنيفة‏:‏ يعتق جزءٌ من كلّ واحدٍ، ويستسعى في باقيه، وقال غيره‏:‏ يعتق ثلثهم بالاقتراع بينهم، فمن خرج له سهم الحرّيّة عتق، وقيمة العبد المستسعى دينٌ في ذمّته، يقدّرها عدلٌ، وأحكامه أحكام الأحرار، وقال البعض‏:‏ لا يأخذ حكم الحرّ إلاّ بعد الأداء‏.‏ وتعتبر القيمة وقت الإعتاق؛ لأنّه وقت الإتلاف‏.‏

مواطن البحث

5 - الكلام عن الاستسعاء منثورٌ في كتاب العتق، وأغلب ذكره مع السّراية، وفي باب ‏(‏العبد يعتق بعضه‏)‏ ‏(‏والإعتاق في مرض الموت‏)‏ كما يذكر في الكفّارة‏.‏